بقلم - مصطفي الفقي
يشدنى دائمًا ذلك النوع من الصراع الصامت بين الانتماء القومى والالتزام الوظيفى، ولقد عاصرت ذلك فى نماذج عدة احتلت مواقع دولية وعالمية وظلت محتفظة بانتمائها الأصلى وإن اختلفت درجة الحياد بين شخصية وأخرى، فالدكتور بطرس بطرس غالى أمين عام الأمم المتحدة الأسبق قد ترك الوظيفة الدولية المرموقة ثمنًا لانتمائه القومى ونتيجة اقتناعه الذاتى بما حدث فى مذبحة قانا، وإصراره على نشر تقرير الأمم المتحدة فى ذلك الشأن، والذى كانت تطالب واشنطن بتجاهله، كما أن الدكتور محمد البرادعى مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبق قد آثر أن يتابع أحوال الوطن المصرى وأن يتحول إلى شريك مؤقت فى أحداث ثورة يناير 2011، وإن كان يتميز بالالتزام الشديد بحيادية الوظيفة قبل الانتماء الوطنى وتبعاته، وأنا أتقدم الآن بنموذج ثالث بهرنى كثيرًا وأسعدنى التعرف عليه والاقتراب منه فى السنوات الأخيرة، وأعنى به الأستاذ جمال هلال، وهو مصرى صعيدى سافر للولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة عقود وساعدته لغته الإنجليزية الرفيعة وكفاءته الوظيفية المتميزة فى أن يصل إلى منصب المترجم الرسمى الخاص لعدد من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية منذ عصر الرئيس الأمريكى رونالد ريجان وصولاً إلى عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، ولذلك فهو شخصية معروفة للملوك والرؤساء والحكام العرب
كما أنه قريب من هموم المنطقة العربية فلم يقطع صلته بها وكان دائم التردد على مصر لزيارة والدته الراحلة وأخواته، فضلاً عن الدم المصرى الذى يجرى فى عروقه، ولم تجرفه تيارات العمل فى البيت الأبيض ومرافقة الرؤساء الأمريكيين فى رحلاتهم إلى الشرق الأوسط، كل ذلك لم يحجب عنه رؤية المنطقة العربية واحتفاظه بالانتماء الأصيل لوطنه المصرى. وما أكثر ما لدى جمال هلال من نوادر وقصص وانطباعات خرج بها من عمله شديد الحساسية بالغ التعقيد، حتى إننى أظن أنه لو كتب مذكراته للقيت رواجًا كبيرًا على المستويين الدولى والمحلى، ولكن الرجل يحتفظ بذلك المخزون فى أعماقه لا يبوح به ولا يتحدث عنه إيمانًا منه بسرية الوظيفة التى كان يشغلها والمعلومات الحساسة ذات الاتصال بالأمن القومى الأمريكى فى جانب والأمن القومى العربى فى جانب آخر، مكتفيًا بمجموعة من الأصدقاء فى مصر والولايات المتحدة الأمريكية أعتز أن أكون واحدًا منهم؛ إذ تبهرنى شخصيته وتشدنى رؤية ذلك المصرى القبطى الأصيل الذى تخرج من كلية الزراعة فى مصر ثم سلك طريقًا مختلفًا بعد ذلك وصل به أن يكون جليس الملوك والرؤساء، وشاهدًا حقيقيًا على عصر يموج بتيارات كاسحة وقرارات خطيرة تمكن بها من أن يبلور رؤية حكيمة لواقع المنطقة، ولذلك يحلو لى دائمًا محاورة ذلك الصديق العزيز والاستماع إلى آرائه الحكيمة واستنتاجاته الواعية، وهو يقضى حاليًا فتراتٍ أطول فى بلده مصر يزوره خلالها ابنه الغالى (الكسندر)، ورغم رحيل والدة جمال التى كانت مصدر حكمة وبركة فى حياته إلا أن جذوره الوطنية تشده إلى الأرض الطيبة التى خرج منها وتعلم فيها واكتسب الوعى من تراثها العريق، لقد شهد جمال هلال لقاءات ثنائية بين الملوك العرب ورؤساء دول الشرق الأوسط حتى تحولت العلاقة بينه وبين بعضهم إلى معرفة وثيقة واحترام متبادل وفهم عميق لمسارات الصراع العربى الإسرائيلى والعلاقات المصرية الأمريكية، وهنا أؤكد على أن الالتزام بمقتضيات الوظيفة الدولية أو الأجنبية عمومًا هو التزام يقتضى من صاحبه أن يظل يقظًا لما يقول، فمن حقه أن يتذكر ويتحدث بشرط ألا يمس قضايا الأمن القومى وما يتصل مباشرة بالمصالح العليا لبلاده أو حتى للدول الأخرى، وجمال هلال فى ظنى أيقونة حقيقية إذا رأيته تصورت أنك أمام شخصية أمريكية كاملة فى المظهر والملامح وأسلوب التفكير، ولكنه لم يخرج أبدًا من عباءة الوطن وبقى دائمًا موضوعى النظرة محايد الفكرة أنيق العبارة، وهو اسم معروف فى ذاكرة من توافدوا على مؤسسة الرئاسة الأمريكية وقاعات البيت الأبيض وعواصم دول الشرق الأوسط، وتستطيع أن تلمس من حياته تذوقه للشخصيات العربية بدءا من ملوك السعودية وحكام الخليج مرورًا برؤساء الجمهوريات وصولاً إلى المناضل الراحل ياسر عرفات، إن جمال هلال كان وسيظل نموذجًا يعتز به وطنه وتعتز به الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ونشعر نحن بالفخر للتعرف على ابن أسيوط المحترم الذى أوصى به اللواء زكى بدر خيرًا عندما كان محافظًا هناك، وتوقع له مستقبلاً واعدًا عندما ترك جمال هلال الوطن وخرج يضرب فى الأرض بحثًا عن موقع يتناسب مع كفاءته وأخلاقه وجذوره العريقة