فى أحد أيام شهر سبتمبر وقرب نهايته عام 1962 كنت فى الإدارة الطبية لجامعة القاهرة لإجراء الكشف الطبى قبيل الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وفى ذلك اليوم تعرفت على زميل فى ذات الدفعة، أعتز به كثيرًا وهو صديقى الأستاذ ماهر سرحان الذى كان شقيقه محافظًا لبورسعيد، كما كان زوج خالته هو الدكتور مصطفى كمال حلمى الذى أصبح رئيسًا لمجلس الشورى فيما بعد، وتوطدت علاقتى بماهر حتى اليوم.
ولا تمضى مناسبة إلا ونتصل لتجديد الصداقة وتذكر أحلى سنوات العمر، وقد شاءت الأقدار أن يتم تعيينى فى مجلس الشورى وانتخابى رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية والأمن القومى ويكون ماهر سرحان هو أمين اللجنة، بعد أن أمضى سنوات من العمل فى رئاسة الجمهورية، وأنا أظن أن العلاقات القديمة والصداقات الطويلة لا يمكن تعويضها.
وبعد أسبوع من الكشف الطبى كنا فى مدرجات الكلية بالسنة الأولى والكل يهمس للآخر: أين هدى عبد الناصر من بين الجميع؟! ولم نتمكن من التعرف عليها لعدة أيام، لأنها كانت تعامل معاملة عادية للغاية ولا نكاد نكتشف حراسة ظاهرة أو اهتمامًا خاصًا.
بل لقد عرفت بعد ذلك أن العقيد عبد الحكيم محيى الدين قائد حرس الجامعة حينذاك حاول أن يبدى اهتمامًا بها وتركيزًا عليها فى حين اشتكت هدى لأبيها من ذلك فاتصل عبد الناصر بالسيد زكريا محيى الدين وقال له: أبلغ ابن عمك قائد الحرس بجامعة القاهرة بألا يهتم بشؤون ابنتى فى كلية الاقتصاد.
فهى تتساوى مع زميلاتيها وزملائها! وبدأ النشاط يدب فى الكلية مع الشهور الأولى لالتحاقنا وكانت قد سبقتنا أسماء من أصدقاء أعتز بهم، مثل على الدين هلال وحاتم صادق ونزيه نصيف الأيوبى- رحمه الله- وغيرهم من الرواد الأوائل الذين التحقوا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى عامها الأول، وكنت مقيمًا فى المدينة الجامعية- وما أدراك ما المدينة الجامعية- فلقد كانت برلمانًا وطنيًا يعج بالأفكار وأصحاب المواهب وذوى الانتماءات المختلفة.
وكانت حجرتى فى المبنى الرابع بجوار صديق من زملاء المدرسة من مدينة دمنهور، وهو الراحل خالد الكومى الذى أصبح سفيرًا فى الخارجية وحصل على الدكتوراة أيضًا، ولكن لا بد أن أعترف أن على الدين هلال كان هو أيقونة الكلية لجرأته فى اقتحام القضايا والتداول مع الأفكار، فضلًا عن اتصالاته القوية بعدد كبير من المفكرين والأكاديميين والكتاب على نحو يسبق عمره بسنوات.
وكان العصر ناصريًا بامتياز والكل يتحدث عن الاشتراكية العربية وعن التحرر الوطنى وعن أهمية إفريقيا، وكان ذلك يتم فى ظل مجموعة متميزة من الأساتذة الكبار الذين أشرنا إليهم فى مناسبات مختلفة، ولا بد أن أعترف هنا أن الدكتور رفعت المحجوب كان أكثرهم جاذبية لتفكيرى، لأنه مرتب العقل، مجدول الذهن، قوى العبارة، فيلسوف النزعة فضلًا عن مسحة ترفع تليق بالعلماء.
حيث كان يدرّس لنا مبادئ علم الاقتصاد ويشرح الدرس بعدة طرق فى وقت واحد بلغة رفيعة وعمق واضح، ولقد تأثرت به حتى إننى اخترت (نظارة طبية) جديدة من تلك التى ليس لها إطار لعدساتها تأثرًا بأستاذى الدكتور رفعت المحجوب والذى جمعتنى به الدنيا فى مواقف مختلفة، كان أهمها وهو رئيس مجلس الشعب وكنت وقتها سكرتير الرئيس الراحل مبارك للمعلومات.
كما بهرنا د. بطرس غالى بأناقته ومظاهر الثراء فى ملبسه وموديل سيارته وابتعاده عن أنشطة الكلية عمومًا، لأنه كان يسافر إلى باريس من وقت لآخر، ولم أكن أعرف وقتها أن صديقى العزيز منير فخرى عبد النور قريب له، إذ إن الدكتور بطرس غالى هو ابن عم والدته ابنة أمين باشا غالى وعمها بطرس باشا غالى الكبير، ومنير بالمناسبة شخصية تعتز بها مصر، وطنية وعلمًا وخلقًا.
فقد أصبح وزيرًا لعدة وزارات بعد ثورة 25 يناير 2011، وعدد الوزراء الذين كانوا أساتذة فى الكلية أو من طلابها يفوق بكثير باقى كليات الجامعات المصرية الأخرى.
وأتذكر الآن أنه ذات صباح حدثت ثورة فى العراق عام 1963 واحتشد الطلاب فى ساحة الكلية بالمئات وترأس الاجتماع الأستاذ الدكتور ثروت بدوى- رحمه الله- شقيق الفيلسوف الدكتور عبد الرحمن بدوى وطلب يومها أن يتحدث أحد الطلاب باسم الحاضرين وجرى اختيارى على الفور فألقيت كلمة كانت هى نقطة التحول فى علاقة زملائى بى تقديرًا وإعجابًا وكانت مقدمة لترشيحى رئيسًا لاتحاد طلاب الكلية بعد تخرج زميلى الراحل طه خليل الذى كان أول رئيس للاتحاد وأصبح بعد ذلك وكيل المخابرات العامة.
إنها قصص متتالية توضح التراكم الذهنى الذى حظيت به أنا وأبناء جيلى فى تلك السنوات الحاسمة من العمر وهى سنوات التأصيل الجامعى!