بقلم - مصطفي الفقي
أشرت فى صفحات سابقة لعلاقتى - طفلًا - بالإسلام دينًا، وكيف أننى بدأت رحلة الحياة شديدَ التدين حريصًا على أداء الصلوات، وكان أغلبها صلاة جماعة فى المساجد القريبة من منزلنا، وأهمها مسجد الحبشى باشا فى مدينة دمنهور، وأتذكر مرور أصحاب الطرق الصوفية على تفتيش المغازى باشا (قريتى)، وتجمُّع الناس حولهم، خصوصًا الشيخ سلامة الراضى وذريته، واكتشفت مبكرًا أن الدين متجذر فى أعماق الشعب المصرى.. ومن لا يدرك هذه الحقيقة يغوص فى وهم كبير.
وقد تعرضت أيضًا من قبل فى سطور واضحة للصراع الذى انتابنى فى مرحلة الانتقال من عمر الغلام إلى سن الشاب، ورغبتى أحيانًا فى مناقشة بعض المسلمَّات الدينية حتى وصلت إلى حل توفيقى يحفظ السلام مع النفس؛ ومؤداه أن العقائد لا تناقش بالعقل ولكنها تستقر فى الوجدان خليطًا من المشاعر المتداخلة ما بين الحلال والمحرمات، وقلت لنفسى دائمًا ومازلت إن الإيمان أمر ينبع من الذات ويستقر فى الأعماق، فالإسراء والمعراج - على سبيل المثال - رحلة لا يتحملها العقل البشرى العادى، ولكن المسلم المؤمن يحل هذه المعادلة بالرصيد الكبير من العقيدة الراسخة لديه، فالإيمان لا يناقش بالعقل، ومن غير المُجدى تداول القضايا المتصلة به من خلال قراءة التفكير الذى نتداوله فى حياتنا العادية اليومية، لذلك فإننى أظن أن رجل الدين - مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا - تتحدد قيمته وتبرز مكانته من خلال قدرته على التوفيق بين ما هو بشرى ملموس وما هو عقيدى غير منظور، وكذلك فإن الشريعة تتعامل مع الثوابت بينما يتعامل الفقه مع نظرة البشر لتلك الثوابت والاختلاف أمامها أحيانًا، حتى لو جاء ذلك مخالفًا لرأى بعض الفقهاء.
ولذلك فإن القداسة للشريعة كلها وليست للفقه برمته، وأنا ممن يعتقدون أن الله قد أرسل الأنبياء والمرسلين ليؤكد حقيقة الإبلاغ الإلهى للبشر (وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، لذلك فإن الجدل على هامش القضايا الدينية ينبغى أن يكون تعزيزًا للقيم الروحية وليس عدوانًا عليها، وفى ظنى أن الصلاة والزكاة، بل كل أركان الإسلام الخمسة هى تصرفات رمزية للتعبير عن الخضوع لله والإحساس بعظمته؛ لذلك ربطتنى بالمؤسسة الدينية الإسلامية، وأيضًا بالمؤسسة الدينية المسيحية، روابط غامضة، فكان الاتجاه لإرسالى طفلًا إلى الأزهر الشريف، ولكن خالى الأكبر اعترض وقال: لن يضيف هذا الطفل للأزهر شيئًا بوضعه الحالى، ولكنه سوف يكون محرومًا من مزايا فكرية أخرى خارج صحن الأزهر! وكان له ما أراد.. فحفظت معظم أجزاء القرآن الكريم، وإن كنت قد نسيت قدرًا لا بأس به منه، ولكننى أستطيع أن أكمل الآية القرآنية فى الغالب عند اللزوم، ولقد انصرف اهتمامى شديدًا إلى الأئمة الكبار والعلماء العظام، حتى إننى اقترحت ذات يوم فى جلسة عصف ذهنى مع الرئيس الراحل مبارك أهمية تعيين أحد رموز الإسلام من العلماء الأحياء شيخًا للأزهر، وذكرت له أربعًا بالتحديد وقتها وهم: (الشعراوى والقرضاوى والغزالى وسيد سابق)، وأبدى الرئيس الراحل اهتمامًا بما أقول، ورد علىَّ بأنه قد عرض المشيخة على الشيخ الشعراوى من خلال الدكتور فؤاد محيى الدين - أول رئيس وزراء فى عهد الرئيس مبارك - وأن الشيخ قد اعتذر، واكتشفنا فيما بعد وبمراجعة الشيخ ذاته أن الأمر لم يعرض عليه، لأن الدكتور فؤاد محيى الدين لم يكن من عشاقه بل كان من غير المتحمسين له، وكانت وجهة نظرى دائمًا أن الشعبية الكاسحة لرجال الدين الإسلامى موجودة خارج المؤسسة الرسمية للأزهر، فالعالم الدينى مهما كانت درجته تضعف قيمته عندما يكون واحدًا من منسوبى الحكومة حتى ولو كان بدرجة وزير أو ما يعلوها، ولقد قدرت للرئيس الراحل السادات فى أعماقى تحديده لمكانة الإمام الأكبر وقداسة البابا بدرجة نائب رئيس وزراء، وذلك بعد حادث شهير فى مدينة الجزائر عندما زارها الدكتور محمد الفحام شيخ الأزهر وجرى استقباله بشكل متواضع وبصورة متعمدة عند وصوله إلى مطار العاصمة، وقال «بومدين» يومها قولته الشهيرة للسفير المصرى نجيب الصدر: «لقد هان الأزهر فى عيونكم فهان علينا.. وسوف يكون هوارى بو مدين خريج الأزهر فى وداع الإمام الفحام فى المطار»، وقد كان.. وعندما بلغ الرئيس الراحل السادات ما جرى اتخذ قراره التاريخى بتقديم ترتيب الشيخ والبابا على النحو الذى نراه حتى الآن.