بقلم - مصطفي الفقي
أعترف اليوم بأننى- مثل غيرى- رجل شرقى مزدوج الرؤية تجاه كثير من القضايا الإنسانية والقواعد الأسرية؛ فأنا نصير المرأة فى المحافل الوطنية والمناسبات الدولية عن اقتناع عميق وفهم حقيقى، ولكننى أشعر أحيانًا أننى لا أمارس ذلك على المستوى العائلى مثل غيرى من رجال الشرق الذين يؤمنون بأن القوامة للرجل رغم أنها مرتبطة بمفهوم الإنفاق دون سواه، معتمدين على نصوص دينية مثل قوله تعالى فى آيات الميراث (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ)، أو مفهوم الإباحة فى تعدد الزوجات، فالشرقى المسلم يفكر فى الأمر بطريقة مختلفة فيها نوع من السيادة (الجندرية) إذا جاز التعبير مع إنكار بعض حقوق المرأة أحيانًا، والغريب أن ذلك يحدث تحت مظلة دينية خصوصًا أن الكثير من التفاسير للذكر الحكيم هى حمالة أوجه، والعبرة فى النهاية بمقاصد الشريعة وليست بآراء الفقهاء فقط، والمرأة فى بلادنا مسؤولة أيضًا إلى حد كبير عن ذلك التمييز التلقائى الذى يعشش فى خلايا المخ للمرأة والرجل على السواء، فالأم ذاتها تميز فى الأغلب الأعم من الحالات بين الصبى والفتاة وتعطى للأول مكانة خاصة وميزة على أخته أو أخواته.
وترى أن ذلك الفتى هو مشروع رجل يقود الأسرة وتنكر على الفتاة نفس الدور، فتدلل الولد على حساب البنت وتنحاز إليه فى أعماقها بشكل ملحوظ، بينما قد تجور على ابنتها مرددة العبارة الشائنة: (اكسر للبنت ضلع يطلع لها اتنين!)، ولقد لاحظت من ترحالى وعملى فى الخارج أنه ليست المرأة المصرية وحدها ولا حتى المرأة المسلمة، هما اللتان تميزان الذكر على الأنثى داخل الأسرة، فعندما كنت فى بريطانيا ورزقنى الله بابنتى الكبرى وبعدها بعامين بابنتى الصغرى اكتفيت بهما راضيًا سعيدًا، وأتذكر يوم أن خرجت الممرضة من حجرة التوليد وأنا أجلس فى الصالون فى مستشفى (بادينجتون) لتبشرنى بوجه قلق عبوس بالابنة الثانية وهى لا تعلم أننى راض تمامًا ولم أفكر فى محاولة ثالثة بحثًا عن ولى العهد المزعوم، وقد اكتشفت أن المرأة عمومًا تنظر غالبًا لابنها الصبى نظرة علوية على شقيقته.
وإذا كان لديها اختيار فى فرص التعليم لأحدهما فإنها تتجه تلقائيًا إلى الولد، بل لعلنا نعلم جميعًا أن كثيرًا من العائلات المصرية الكبيرة خصوصًا فى الصعيد تورث الأرض لأبنائها الذكور وتعطى البنات بعض المصاغ أو النقود السائلة، ولكنهم لا يأتمنون على أرض الآباء والأجداد إلا الذكور ممن يحملون الاسم ويحافظون على ملكية الأرض حتى لا تتسرب لعائلات أخرى من خلال النسب والمصاهرة، ولقد روعتنى دائمًا تلك الازدواجية التى نمارسها لا شعوريًا مثل غيرنا من ذكور الأجيال السابقة حيث ننحاز تلقائيًا وبلا وعى ودون سند من منطق أو حقيقة إلى الابن الذكر ونميزه عن شقيقته، بل إن كثيرًا من العائلات تسرف فى الإنجاب انتظارًا لابن بعد عدد من البنات وقد تكون هذه الظاهرة أحد عوامل الانفجار السكانى فى بلادنا، ونتذكر الآن أن العرب فى الجاهلية كانوا يئدون البنات فى المهد انتظارًا لذكر قادم ذات يوم، وقديمًا قالت أعرابية مخاطبة زوجها:
ما لأبى حَمزةَ لا يَأتينا يَظلّ فى البيتِ الّذى يَلينا
غَضبان أَن لا نلدُ البَنينا تَاللَّه ما ذلكَ فى أَيدينا
فى مقارنة بينها وبين شريكة أخرى لنفس الزوج، وكثيرًا ما لفتت نظرى زوجتى وابنتاى إلى ذلك الازدواج الخفى الذى يقبع فى العقل الباطن، مرددات أن الرجل الشرقى، بل وربما الرجل عمومًا، لا يبرأ من تلك الخطيئة وأعنى بها التمييز اللاواعى بين الذكر والأنثى، فى الذرية على مر القرون، وأنا أعترف أن الوظيفة الذكورية مختلفة عن دور الأنثى فى الحياة، ولكننى أشدد فى ذات الوقت على المساواة المطلقة برغم كل الاختلافات حتى إننا نقول إن المواطنة هى المساواة بين بشر مختلفين جنسًا ودينًا ولونًا وقومية، إن الذين يمارون فى هذه الحقيقة ويرفعون شعارات براقة لا يدركون أحيانًا أنهم يعانون من ازدواج فى الشخصية، وقدر لا بأس به من تداخل الرؤية واللبس فى فهم الحقيقة، إننى أقول هذه الكلمات وقد عدلت كثيرًا فى مسار حياتى من هذه النظرة المزدوجة، وحاولت أن أكون مختلفًا على نحو يتفق مع الضمير والأخلاق، وأزعم أننى نجحت فى ذلك كثيرًا ولكننى أشعر بالظاهرة تطوق المجتمعات فى كل الأوطان والأديان، بل وفى ظل معظم الحضارات والثقافات!.