إن الزواج الأمثل هو ذلك الارتباط الذى يؤدى إلى الاندماج بين رجل وامرأة باختيارهما الحر لتبدأ بهما رحلة الحياة بما فيها من تقلبات وأعاصير، وعندما أنهيت المرحلة الثانوية والتحقت بالدراسة الجامعية بدأت معها تجربة الاختلاط الاجتماعى، بما تحمله من نقلة نوعية بعد سنوات من التربية المنفردة فى المدارس بمراحلها المختلفة.
ولكن الشاب القادم من إحدى محافظات شمال الدلتا استوعب التجربة بسرعة واندمج مع زميلاته وزملائه فى حياة جامعية صحية للغاية، لم تكن الفتيات محجبات بل كن سافرات فى وقت شاع فيه رداء (المينى جيب) كأحد مظاهر الموضة فى ستينيات القرن الماضى، ولم ينبهر (ابن البحيرة) بما رآه فلقد كانت الأجواء توحى بالاحترام المتبادل والثقة الكاملة فى ظل ظروف اجتماعية متقاربة بسبب حالة الذوبان الطبقى التى جعلت الفروق بين الجميع فى حدودها الدنيا.
سواءً للقادمين من أعماق الريف أو القابعين فى أحشاء المدينة، وربما تعلق الفتى بزميلة لبعض الوقت ولكن ذلك لم يدم طويلًا فقد اندمج هو فى الحياة الثقافية والسياسية المتاحة فى العصر الناصرى.
والتى كانت تتمتع بهامش محدود من حرية الحركة فى ظل المعارك الوطنية التى قادها عبد الناصر فى تلك الفترة، وانشغل صاحبنا بالنشاط الطلابى الذى انخرط فيه والمدينة الجامعية التى عاش فيها أول عام من دراسته فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حيث كانت تبدو المدينة كالبرلمان الوطنى لكل أبناء محافظات مصر القادمين من المدن والقرى يطلبون العلم فى أعرق جامعات المنطقة.
حتى أفرز الاتحاد الاشتراكى العربى - باعتباره التنظيم السياسى الواحد - تجربة منظمة الشباب العربى الاشتراكى وهى تجربة لها ما لها وعليها ما عليها، ولكننى أدعو إلى مراجعة نتائجها سلبًا أو إيجابًا، فهى تجربة حافلة بالنجاح والفشل تضم خلاصة حركة الشباب فى ستينيات القرن الماضى وهى التى قدمت للوطن أسماء لامعة فى مجالات مختلفة لا يزال بعضها يصارع الزمن ويقدم لوطنه عطاءً لا يتوقف؛ من أمثال مفيد شهاب وعلى الدين هلال وأحمد يوسف وأسامة الغزالى حرب ومنى ذو الفقار وعثمان محمد عثمان وكاتب هذه السطور.
ممن عبروا مع التجربة مرحلة الشباب بخبرات مكتسبة ورؤية مستقرة فى الأعماق جعلتهم قادرين على فرز الأخطاء وفهم الأمور والتفرقة بين ما هو وطنى مستقر وما هو سياسى عابر، وفى تلك الأثناء كانت هناك مراحل ثلاث للتدريب السياسى داخل خيام المناقشة التى كانت تحوى حوارًا حرًا يقوده رجل بقامة المفكر اليسارى الراحل عبد الغفار شكر.
وفى المرحلة الثانية التقيت بفتاة على قدر من جمال الشكل والخلق أنهت دراستها فى مدرسة الليسيه وتتهيأ بعد ذلك لدخول الجامعة حيث كانت تطمح فى الالتحاق بكلية الآداب استكمالًا لثقافتها الفرنسية ودراستها السابقة، وكان الشباب المصرى يردد ساخرًا فى تلك الفترة (إن الطريق إلى الزواج يمر بصنعاء)، إشارة إلى عودة الضباط الشباب من معارك اليمن مستعدين للزواج من أجمل الفتيات فى جامعات مصر.
وقد اقتربت - وقد كنت خريجًا حديثًا- من الفتاة الصغيرة (نجوى) ابنة الثمانية عشر ربيعًا والتى انضمت لشباب المنظمة عندما بدأت تنتشر معسكراتها فى الجامعات والمدارس، وتطور الإعجاب بيننا حيث كانت ترانى كما تقول أشبه بالفلاسفة الألمان من خلال نظارتى الطبية وأراها أميرة هندية من خلال لون بشرتها الذى ينطق بجمال مصرى فرعونى.
وأعجبنى فيها هدوؤها الشديد وذكاؤها الحاد وثقافتها الواسعة، فتقدمت لوالدها فى حفل خطوبة بسيط وانتظرت حتى استكملت هى دراستها فى قسم الصحافة بآداب القاهرة، وقد باركت الأسرتان ذلك الارتباط للشابين الصغيرين فى مستهل رحلة الحياة، وأتذكر أن السيدة الفاضلة سوزان مبارك - عندما كانت فى زيارة للنمسا لتسلم جائزة دولية وكنت أنا سفيرًا لبلادى هناك - وأثناء إحدى الجلسات معنا أنا وزوجتى أن سألتنا فى أى عمر تزوجتما؟.
وعندما أجبت أننى تزوجت فى الرابعة والعشرين أجابت السيدة الفاضلة بعفوية إنها سن مبكرة للزواج وقد يكون التريث أوفق بعد ذلك بسنوات قليلة، وعلقت زوجتى يومها بعد انتهاء اللقاء أنها لم تسترح للإجابة وأن الزواج المبكر قد يكون أفضل للطرفين للبدء فى رحلة الحياة معًا فى سنوات مبكرة!.
وأنا أكتب الآن هذه السطور لكى أؤكد أن مؤسسة الزواج صانعة الأسرة ليست سهلة التكوين ولا يسيرة الاستمرار، وقد تعترضها مشاعر متباينة ومشارب مختلفة لأنها تعنى حالة الاندماج بين كيانين متصلين يؤدى التوحد بينهما إلى ضرورة تخلى كل طرف عن بعض أفكاره وعاداته، والأمر هنا ليس سهلًا لأنه يعنى التخلى عن بعض الأشياء والتحلى ببدائل لها من الطرف الأخرى.
إنها التجربة الإنسانية الكبرى فى حياة البشر وهى تستلزم قدرًا كبيرًا من الحب والود والألفة التى تجعل العلاقة بعد سنوات تقف على أرض صلبة من العشرة القائمة والمحبة المتبادلة، وكم هى سعادتى وأنا أرى الفتاة الصغيرة التى اقترنت بها منذ أكثر من نصف قرن قد أصبحت ذات نشاط تطوعى فاعل على المستويين المحلى والدولى فى إسهام صامت لرفع المعاناة عن الآخرين!.