توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اعترافات ومراجعات (16) (أزمة الشك)

  مصر اليوم -

اعترافات ومراجعات 16 أزمة الشك

بقلم - مصطفي الفقي

يجب أن أعترف فى هذه السن المتقدمة أن الشك فى الأقوال والأفعال قد اعترانى منذ الطفولة، خصوصًا أننا ننتمى إلى شعب لا تعبر الكلمات الضخمة لديه عن الوقائع المحددة فيه، إذ إن المبالغة فى الحديث ودراما الكلمات فى لغة ثرية مثل اللغة العربية تزرع الشك فى داخل نفسية كل من يتوقع الكمال فى الآخرين؛ لذلك بدأت منذ طفولتى عملية حوار مع الذات من خلال تأمل صامت لما يقال حتى أدركت أننى لا أقبل كل ما أسمع، واعترتنى أزمة شك طاحنة فى كثير من أحداث التاريخ بل ومعطيات الحاضر، واقتنعت بينى وبين نفسى أن كل رواية تاريخية لا يسندها أثر قائم هى محل شك، كما أن كل ما يصل إلى مسمعى عن واقعة حاضرة لا يستقر أيضًا فى أعماقى ما لم تكن هناك شواهد مؤكدة فى ذلك الذى أراه، وامتدت محنة الشك لتجعل منى شخصًا يوصف بأنه «نِمكى»؛ أى يراجع الأمر أكثر من مرة وينشد الكمال حوله ويعشق إجادة الأعمال مهما كانت الظروف، ولقد عبر عن ذلك الروائى الراحل خيرى شلبى عندما كتب عنى دراسة فى مطلع هذا القرن جعل عنوانها (المفهرس) وخلص منها إلى عدة نتائج وأنا أنحنى احترامًا لعقله المضىء.

وكأنما كان يعيش معى ويسبر أغوار دواخلى.. من هنا شعرت بتقدير كبير لذلك الروائى الراحل الذى تلى قيمته مباشرة أعظم كاتب معاصر وأعنى به صاحب نوبل نجيب محفوظ. ولقد استبدت محنة الشك فى حياتى لتشمل رفضًا لكافة المسلمات الموروثة والأفكار المستقرة بل والأوهام المتداولة، وذلك أمر جعلنى دائمًا فى حيرة شديدة تصارع الشك باليقين وتفتح نوافذ فى العقل كانت مغلقة بسبب الرؤى المكررة والأفكار الخاطئة، وأنا مؤمن بشدة أنه ليس كالنقص دليل على الكمال وليس كالشك طريق إلى اليقين، والفيلسوف الكبير الذى قال: (أنا أفكر إذًا أنا موجود) لم يكن يبيع الوهم ولكنه كان يقر الحقيقة، ولنا هنا عدة ملاحظات:

أولًا: إن هذه النوعية من العقول تحتاج إلى حوار مستمر وتفكير متواصل لا ينتهى أبدًا بغير إدراك مقنع للحقيقة، وكانت أسئلتى فى مرحلة الطفولة أمرًا يرهق أبى للإجابة عليها واستكشاف مضمونها، فالذى يشك يكون دائمًا كثير التساؤل تتملكه الحيرة من وقت لآخر.

ثانيًا: إن الأفكار الكبرى بل والاختراعات الضخمة قد ارتبطت كلها بمحنة الشك الذى يحرض على التفكير ويدفع إلى التساؤل ويسير بالأمور إلى ما يبغى الإنسان حتى ولو رفضته الجماعة فى البداية وجرى اتهامه على نحو واضح، فالشك كما أسلفنا هو بحق طريق اليقين والسبيل إلى الإيمان، ولعلى أعترف هنا بأننى لم أكن سعيدًا فى ظل معظم النظم السياسية التى عاصرتها أو راقبت مسيرتها أو شاركت فى أعمالها لأننى اكتشفت فى النهاية أنها جاءت كنتيجة طبيعية لتجريف الكفاءات والتفريط فى القدرات، فضلًا عن العبث الفكرى والديماجوجية السياسية تحت غطاء الشعبوية المطلوبة.

ثالثًا: لقد بهرتنى فى سنوات الطفولة الأولى ملابس الباشوات من رجال السياسة وهم يتشحون بالأردية الموشاة بالقصب وعلى رؤوسهم الطرابيش بأوضاعها المختلفة، فطربوش على ماهر باشا كان يتقدم إلى الأمام على جبهته، وطربوش عبد الرحمن عزام باشا يتراجع إلى الخلف ليفسح المجال لمساحة من مقدمة رأسه، وقد انتابتنى فى تلك السن الصغيرة موجة إعجاب بتلك الرموز ولكننى رفضت فى الوقت ذاته التسليم بأن ذلك هو النموذج الأفضل لحياتى وحياة غيرى، واستبد بى الشك الدائم فى كفاءة الحياة السياسية لسنوات طويلة، وما زلت أحتكم إلى العقل بينى وبين نفسى فى عدالة متأصلة قد لا تبدو على السطح عند تقييم الأشياء وتمييز المواقف.

رابعًا: لقد أشرت من قبل إلى محنة الشك التى أصابت إيمانى فى سن التحول من غلام إلى شاب، وكيف أننى توهمت وقتها أن هناك صدامًا حتميًا بين العلم والإيمان وبين العقل والخرافة، إلى أن تغلبت العقيدة المتأصلة وعاد الفتى الصغير إلى رشده مؤمنًا عن دراسة مقتنعًا عن رغبة، حتى أضحت الأمور واضحة وأصبح الإيمان متأصلًا.

إن محنة التخبط الفكرى وأزمة الشك فى كل المسلمات الموروثة قد جعلت حياتى فى صراع دائم وصدام مستمر بين المواقف المضادة والآراء المتباينة، ولكننى عدت إلى حظيرة اليقين رافعًا يدى فى استسلام لقسوة الحياة وظلم الأحياء!.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اعترافات ومراجعات 16 أزمة الشك اعترافات ومراجعات 16 أزمة الشك



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon