تفضلت علىّ وزيرة خارجية السودان السابقة د. مريم الصادق المهدى بزيارة فى مكتبى بوسط القاهرة فى ديسمبر ٢٠٢٣ ردًا على كلمة ألقيتها فى احتفال سودانى مصرى بالقاهرة تكريمًا لذكرى والدها وتدشينًا لبعض مؤلفاته، وقد سعدت كثيرًا بزيارة الوزيرة السابقة للخارجية فى السودان والتى تركت منصبها منذ شهور قليلة، وكانت نموذجًا لواحدة من بنات بيت المهدى العريق وابنة المفكر العربى الإسلامى الإفريقى السيد الصادق المهدى الذى ربطتنى به صلة وثيقة لعشرات السنين.
واحترمت دائمًا أسلوب تفكيره والمنطق العلمى الذى يصل به إلى نتائج صحيحة فى إطار نظرى محكم، ولا عجب فهو حفيد المهدى الكبير وينتمى إلى أسرة ارتبطت بشدة بتاريخ السودان الحديث والعلاقات مع مصر التى تأرجحت صعودًا وهبوطًا بين القاهرة والخرطوم، وفقًا لمعطيات كل مرحلة ونوعية الزعامات على الجانبين المصرى والسودانى. وقد تبوأ السيد الصادق المهدى منصب رئيس وزراء السودان لأول مرة، وهو شاب فى ستينيات القرن الماضى.
ثم شارك فى الحياة السياسية بمختلف ألوانها وطقوسها عبر السنين، وعندما عبرت سحابة صيف على علاقته بمصر، خصوصًا فى فترات الحكم العسكرى الذى توالى على السودان بعد رئيس الوزراء عبدالله خليل الذى تبعه الفريق إبراهيم عبود، حتى أنهى التمرد المدنى حكمه فى الحادى والعشرين من أكتوبر عام ١٩٦٤، لتتوالى بعد ذلك دورات متصلة بالتناوب بين الحكم العسكرى والحكم المدنى.
وتتأرجح علاقات الخرطوم بالقاهرة وفقًا للمشاعر السودانية تجاه ما يجرى فى مصر خلال سنوات حكم الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك، وبذلك اتصفت العلاقات بين مصر والسودان منذ التحول الذى جرى للحزب الاتحادى، بقيادة إسماعيل الأزهرى، من معسكر الحماس لوحدة وادى النيل إلى الرغبة الشعبية فى استقلال السودان الذى جرى إعلانه فى أول يناير ١٩٥٦ عندما اتجهت أنظار السياسة المصرية نحو المشرق العربى والمواجهات الوطنية ضد الوجود الأجنبى فى المنطقة وقيادة القاهرة لحركات التحرر الوطنى.
إلى أن جاء عصر وصل فيه جعفر النميرى إلى سدة الحكم بعد أن تخلص من بعض رفاقه ومنافسيه والذى أقام علاقات مستقرة نسبيًا مع مصر فى ظل راية التكامل بين البلدين التوأم مصر والسودان، ثم أطاح تمرد مدنى عسكرى آخر بحكم النميرى، ووصل الضابط عبدالرحمن سوار الذهب إلى قمة السلطة التى تركها وجاء الصادق المهدى صاحب الشخصية الإنقاذية إلى منصب رئيس الوزراء مرة أخرى، حتى قفز عُمر البشير ورفاقه إلى قمة السلطة عام ١٩٨٩ حيث شهدت العلاقات المصرية السودانية موجات من التدهور لم نر لها من قبل مثيلًا.
وظل اسم الصادق المهدى متألقًا فى سماء وادى النيل والدوائر الإسلامية والعربية والإفريقية كزعامة معتدلة تحظى باحترام الشارع السودانى وتقدير الأوساط الخارجية، حيث ظهر دائمًا، كأنه رجل الإطفاء الوطنى الذى يعمل من أجل بلاده بل وجيرانه أيضًا، وقد التقاه الرئيس مبارك أول مرة فى العاصمة الإثيوبية على هامش اجتماعات قمة منظمة الوحدة الإفريقية حينذاك، وبدا الرجلان مختلفين تمامًا.
فالصادق المهدى يتحدث بقاموس نظرى متأثرًا بدراسته فى جامعة أوكسفورد، بينما الرئيس الراحل مبارك يفكر بطريقة براجماتية فقد كان الرئيس المصرى الراحل لا يميل إلى التنظير أو ربط الحقائق بخلفية أيديولوجية، وكان يعتقد أن التعامل المباشر مع الظواهر السياسية هو أقصر الطرق للدخول فيها بواقعية تضع لعنصر الوقت تأثيرًا كبيرًا فيها، وقد انتهى اللقاء الأول بينهما دون أن يترك انطباعًا مريحًا بين الطرفين لأن الكيمياء الشخصية لم تتفاعل بينهما ولم تبرز علامات التوافق فى الآراء بين الزعيمين المصرى والسودانى.
ولكن ثورة الإنقاذ الوطنى فى السودان عام 1989 وتدهور العلاقات بين القاهرة والخرطوم جعلا الصادق المهدى - رحمه الله - سفيرًا للنوايا الطيبة بين الشعبين المصرى والسودانى، وازداد تردده على العاصمة المصرية بشكل منتظم واقتنى دارًا كمسكن شخصى له فى مدنية نصر بشرق القاهرة، واعتاد أن يستقبلنا أصدقاء وضيوفًا، ومن خلال زياراته المتكررة للعاصمة المصرية ضخ السيد الصادق المهدى دماء المشاعر العميقة فى شرايين العلاقات الشعبية بين القطرين الشقيقين وزالت إلى الأبد غشاوة الشك التى كانت تظلل العلاقات المصرية بالحركة المهدية فى بعض الظروف السياسية والمراحل التاريخية.
ويتذكر الجميع أن الإمام الصادق المهدى هو حفيد المهدى الكبير الذى غضب عند مصرع جوردن، الحاكم الإنجليزى للسودان، لأنه كان ينتوى احتجازه ليقايض به بريطانيا فى عودة عرابى البطل المصرى من منفاه فى سرنديب، وتلك كانت هى الروح الكامنة فى العلاقات بين الزعامات فى شطرى الوادى، رغم كل المشكلات والأزمات والخلافات التى مرت بها الدولتان الشقيقتان حتى أصبحت كل منهما عمقًا استراتيجيًا للأخرى، كما أن السودان هى التى استضافت القمة العربية فى أغسطس ١٩٦٧ التى أعادت الاعتبار للحركة القومية، وحددت مع عبدالناصر ملامح الصمود ورفض الهزيمة ومواصلة الكفاح لأجل الأهداف العربية المشروعة.
لقد مرت كل هذه الذكريات بخاطرى وأنا أجلس إلى جانب الوزيرة السودانية السابقة مريم الصادق المهدى، وهى تهدينى غطاء رأس أنيقا من ذلك الذى كان يضعه على رأسه أحيانًا والدها الزعيم السودانى الراحل، طيب الله ثراه، وقد حضرت اللقاء الإعلامية المصرية أسماء الحسينى من مؤسسة الأهرام ومعها زوجها السودانى المصرى الكاتب الصحفى نبيل نجم، ولقد شردت بذهنى حزينًا مهمومًا وأنا أقارن حديثنا المتفائل بما يجرى على أرض السودان حاليًا من صراعات تهدد وحدته وتكاد تعصف بتماسك ذلك الشعب العظيم الذى تربطنا به أشد الصلات وأقوى الروابط.