بقلم - مصطفى الفقي
أرى أن شهر رمضان المبارك مناسبة سنوية للتحدث عن بعض شيوخ الإسلام، وأخص بهم الأئمة الكبار للأزهر الشريف. أختار منهم واحدًا كل أسبوع للحديث عنه، وأشير إلى لمحاتٍ من تاريخه ووقائع تتصل بمكانته الرفيعة، ولقد رأيت أن أبدأ بالإمام محمد الفحام، رغم أنه قد سبقه أئمة عظام أيضًا عاصرتهم عن بُعد، أتذكر منهم الإمام محمود شلتوت، الذى رحل عن عالمنا والرئيس عبدالناصر خارج البلاد، فشيع جنازته المشير عبدالحكيم عامر، رحمهم الله جميعًا، كما أتذكر الإمام حسن مأمون، الذى كان صاحب رأى مستقل، وانتقد التطبيق الاشتراكى الناصرى فى عهده، وضحى بمنصبه بسبب تمسكه برأيه، وهو خال مباشر للكاتب الصحفى الكبير صلاح منتصر. وقد جاء تعيين الإمام محمد الفحام بترشيحٍ من والد الرئيس عبدالناصر، الذى كان يعرف الشيخ المقيم بالإسكندرية، ورأى فيه نموذجًا للأئمة العظام من شيوخ الإسلام الكبار الذين جاءوا فى عصر الرئيس الراحل، بدءًا من الخضر حسين التونسى الجزائرى، مرورًا بالشيخ عبدالرحمن تاج، وصولًا إلى الإمام البارز فى تاريخ الأزهر، محمود شلتوت، الذى ينتمى إلى محافظة البحيرة، التى قدمت علماء كبارًا من أمثال محمد عبده و«حمروش» وعبدالعزيز عيسى ومحمد مدنى، فهى محافظة اشتهرت برجال الأزهر الكبار، وصولًا إلى المفتى الحالى، الدكتور شوقى علام. ونعود إلى الإمام الفحام، فنتذكر أنه هو الذى أَمَّ صلاة الجنازة على روح الرئيس عبدالناصر، ويتردد أنه بسبب الارتباك الشديد يومها، تم وضع نعش الرئيس أفقيًّا بغير اتجاه القبلة، فقد كانت هيبة عبدالناصر قوية حتى بعد مماته!.
وقد وجهت دولة الجزائر بعد ذلك بعام أو يزيد دعوة إلى شيخ الأزهر، محمد الفحام، لزيارة العاصمة الجزائرية، ولبّى الشيخ الدعوة، فوصل إلى مطار الجزائر، ولاحظ سفير مصر هناك أن مستوى الاستقبال لا يليق بالإمام الكبير، فالذى كان عند باب الطائرة هو مدير للشؤون الإسلامية فى وزارة الخارجية الجزائرية، بدرجة سفير، فلم يعجب ذلك الاستقبال سفيرنا، فقد كان شخصية قوية من أصول عسكرية، هو السفير نجيب الصدر، وما إن انتهى الاستقبال فى المطار حتى طلب السفير المصرى لقاء وزير خارجية الجزائر وقتها، عبدالعزيز بوتفليقة، الذى بادر السفير فى أول المكالمة قائلًا: إنك تريد أن تلتقى بى اليوم لسبب نعرفه، ولكن اللقاء لن يكون معى، ولكن مع هوارى بومدين، رئيس الجمهورية، وقد تحدد له السابعة مساء اليوم، فى قصر الشعب، وذهب السفير فى موعده، فبادره «بومدين» قائلًا: لقد جئتَ اليوم محتجًّا على مستوى استقبالنا لشيخ الأزهر، وأنا أؤيدك فيما سوف تقول، ولكنها رسالة منّا إلى القاهرة بضرورة إعطاء الإمام الأكبر مكانته اللائقة، فالأزهر الشريف عزيز على قلوب المسلمين فى كل مكان، فهل تعرف يا سيادة السفير مَن الذى كان يجب أن يستقبل شيخ الأزهر فى مطار الجزائر؟، فرد عليه السفير: ربما يكون وزير الأوقاف مثلًا، فقال «بومدين»: كلا، إن الذى كان يجب أن يستقبله هو هوارى بومدين، رئيس الجمهورية، خريج الأزهر الشريف، وفى نهاية الزيارة صمم «بومدين» على أن يكون فى وداع الإمام الفحام فى مطار الجزائر، ولما عرف الرئيس الراحل أنور السادات بما حدث مع شيخ الأزهر من بداية زيارة الجزائر إلى نهايتها، أصدر مرسومًا يجعل أقدميته تالية لرئيس الوزراء، ويليه بابا الكنيسة القبطية، وبذلك اعتدل بروتوكول الدولة المصرية بسبب ما جرى فى الجزائر مع الإمام الأكبر، محمد الفحام. وبذلك دخلت هذه القصة المثيرة فى أدبيات الأعراف الدبلوماسية لمراسم الدولة المصرية، بحيث يحظى شيخ الأزهر الآن بما يليق بموقعه والمكانة التاريخية للمؤسسة الإسلامية الكبرى التى يترأسها، وهى الأزهر الشريف، مصنع العلماء الكبار، الذى يجب أن يتصدى دائمًا لنزعات التطرف والتشدد، وأن يركن إلى سماحة الإسلام، التى تدعو دومًا إلى الوسطية والاعتدال