بقلم : مصطفى الفقي
إن استقراء التاريخ يشير بوضوح إلى الدور البارز لبلاد الرافدين في الحضارة العربية الإسلامية، ويؤكد أن مساهمة العراق في إثراء تلك الحضارة مساهمة لا تقف عند حد معين، بل هي مساهمة موصولة قبل الإسلام وبعده، فلقد سكنت قبائل «المناذرة» تخوم العراق القديم لكي تكون دولة عازلة بين الإمبراطورية الفارسية القديمة والجزيرة العربية بقبائلها المتعددة وعشائرها المختلفة، وقد كان دور بغداد في ظل الدولة العباسية دوراً متجذراً ترك بصماته القوية على التاريخ العربي حتى الآن، ولقد عرفنا دائماً أن العراق عربي اللسان والهوية على رغم تعددية أعراقه وتباين مكوناته السكانية، ولكن ظلت العروبة دائماً هي المظلة التي تغطي المساحة الواسعة لأرض الثراء والوفرة في العصور المختلفة، ولأن عروبة العراق كانت حجر الزاوية في أحداث التاريخ المختلفة، فإننا نشعر حالياً بأن هناك من يحاول الانتقاص من تلك العروبة وإلقاء ظلال الشك على عموميتها وعمق تأثيرها، لذلك دعنا نتجول في رحلة قصيرة لتطور العراق الحديث ثقافياً واقتصادياً وسياسياً حتى ندرك الدلالات التي تؤشر لاستمرار عروبته وعمق انتمائه لأمته، وسوف نرصد ذلك من خلال الملاحظات التالية:
أولاً: تختلف التركيبة السكانية للعراق عن معظم الشعوب العربية من حيث وجود قوميتين متجاورتين عبر تاريخه الطويل، فالعرب والأكراد يعيشون في ذلك الإقليم وهما يشتركان إلى حد كبير في الديانة ولكنهما يختلفان في النشأة القومية ومظاهرها من لغة وعادات وتقاليد، وقد انعكس ذلك دائماً على كل محاولات الانتقاص من عروبة العراق، حتى أن هناك من يكتفي بتلخيص تلك العروبة في أن العراق عضو مؤسس في جامعة الدول العربية دون أن يعترف باللغة العربية لغة سائدة ولا بالعروبة شعوراً قومياً عاماً، وواقع الأمر أن التداخل بين القوميتين كبير وعميق، ويكفي أن نتذكر أن بطل المنطقة في مواجهة «حروب الفرنجة» صلاح الدين الأيوبي هو كردي الأصل، وبذلك فإن التصالح بين العروبة والكردية أمر حسمه الاندماج التاريخي، ولم يجعل منه تناقضاً مقلقاً، ولكن المسألة الكردية برمتها وتوزع أبنائها بين العراق وإيران وسورية وتركيا وروسيا قد جعل منها مسألة أكثر تعقيداً، بحيث تغري بالانفصال لتكوين دولة كردية واحدة، ولقد شهد العصر الحديث محاولات لجمع شتات أبناء القومية الكردية، ولكن هناك عشرات المحاذير والمشكلات التي جعلت ذلك الأمر صعباً حتى اليوم، على رغم تعاطفنا مع الأماني القومية للأكراد فإننا نرى أن مفتاح حل المشكلة لا يبدأ من العراق ولكنه قد ينتهي بها، إذ إن الدولة التركية عامل قوي ومؤثر وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأطراف الأخرى التي ذكرناها، والغريب أن الأمة العربية بشعوبها المختلفة تحسب العراق قوة فيها ورصيداً له،ا ولا ترى ما يراه الآخرون من محاولات جديدة للعبث بالشخصية العربية للعراق، ولقد كانت مساهمة العراق في كافة المشكلات والأزمات التي تعرض لها الوطن العربي مساهمة مشهودةً ويصعب إنكارها.
ثانياً: إنني ممن يؤمنون بأن الخلاف بين الشيعة والسنة هو خلاف مصطنع أسهمت فيه قوى خارجية خصوصاً في العراق عندما دعمت بريطانيا عام 1920 أهل السنة على حساب العرب الشيعة، ثم قامت الولايات المتحدة الأميركية في عام 2003 بعملية عكسية، وذلك عن طريق التركيز على الوجود الشيعي في محاولة لتقسيم ذلك البلد العربي الكبير وشغله بمشكلات وأزمات تبدو في مجملها مصطنعة ولا مبرر لها، فالشيعة والسنة مسلمون لهم الإله ذاته، كما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم واحد وقرآنهم واحد وقبلتهم واحدة وأركان دينهم لا تختلف، فالمشكلة في النهاية هي مشكلة تاريخية لا تعدو أن تكون اختلافاً في تقييم بعض الشخصيات من الدائرة الأولى التي أحاطت بالنبي محمد (عليه الصلاة والسلام) وآل بيته، وهو أمر يخضع في النهاية لحسابات التاريخ ولا يندرج بالضرورة في جوهر الدين، ولقد اعتمد الأميركيون- بعد إسقاط نظام صدام حسين وسيطرتهم على مقدرات البلاد- سياسة خبيثة تربط بين صدام وممارساته العنيفة وبين المذهب السني وكأنه عداء متعمد ضد شيعة العراق، وأنا شخصياً أتاحت لي زيارات سابقة إلى بغداد أن أشهد عن كثب العلاقات المتداخلة بين من يتحمسون للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ومن يقدرون الإمام الأكبر موسى الكاظم، ولا يختلف سكان الأعظمية عن أقرانهم في الكاظمية، حيث يشغلهم جميعاً الهم العراقي الواحد، فالزيجات المشتركة والروح التي تجمع أبناء ذلك البلد لا تسمح لنا بأن نتحدث عن اختلافات دينية، والأمر في ظني هو صناعة أجنبية جرى تصديرها إلى العراق في محاولة لاحتوائه والإفادة من ثرائه والتسلل إليه من خلال تعدديته.
ثالثاً: تبدو الدولة العراقية حالة استثنائية لا نكاد نجد لها نظيراً، فقد وهب الله العراق وفرة في المياه، ثم أعطاه وفرة في النفط، ثم زاد على ذلك بأرض شديدة الخصوبة يغذيها دجلة والفرات، لذلك كان مركزاً للطامعين الذين تفتحت شهيتهم للإفادة من هذا الثراء المتميز الذي لا نكاد نجد له مثيلاً في عالم اليوم، فالله لا يعطي المياه والنفط والأرض الخصبة إلا في حالات نادرة يعتبر العراق أكبر نموذج لها، وزد على ذلك أن العراق يتميز برصيد ثقافي كبير يتمثل في نهضة تعليمية طويلة المدى، لذلك كان للعراق دائماً مساهمة مشهودة في العلوم والفنون والآداب، ولعل المدرسة المستنصرية هي علامة مضيئة للتطور الفكري لإقليم العراق في مسيرته الطويلة عبر رحلة الحضارة العربية الإسلامية.
رابعاً: إن طبيعة العراقي أنه إنسان شديد المراس قوي الشكيمة ومقاتل جسور تعود عبر تاريخه العنيف على الاعتزاز بقوميته والاعتداد بكرامته، وهو طيب القلب يحب بشدة ويعادي بقوة، فيه من بداوة العروبة الفطرة السوية وفيه من ثقافة العصر علومه الحديثة، كما امتلك العراق سلاحاً جوياً متفرداً وقد كان رئيس مصري أسبق هو طيار حربي مرموق يحكي أنه قد قضى شهوراً في قاعدة «الحبانية» في العراق، وبدا مبهوراً بكفاءة الطيارين العراقيين، وكان يشير من حين إلى آخر إلى صداقته بقائد طيار في العراق هو حميد شعبان وليس هناك أفضل من اعتراف العسكريين بفضل بعضهم، ولقد خاض العراق حروباً مريرة في العقود الأخيرة لعل أهمها كانت الحرب العراقية - الإيرانية، وهي حرب غير مبررة من وجهة نظري على رغم استمرارها أكثر من ثماني سنوات متصلة، وجدير بالذكر أن تشيع العرب في العراق يسبق تشيع الفرس بالقرون عدة، وقد كان غزو صدام حسين للكويت في مغامرة غير محسوبة دفع ثمنها غالياً ودفعت معه أمته العربية ثمناً أغلى، ثم جاء الحصار المحكم على «عراق صدام» إلى أن جرى إسقاط نظامه ودخلت الولايات المتحدة الأميركية إلى العراق في غزو فج، أزعم أنه دمر أركان الدولة واستنزف مقدراتها ودفع جحافل الإرهاب إليها، حتى تمكن العراقيون من طرده من أرضهم واستعادة السيطرة على أنحاء العراق، ولا أزعم أن الصورة وردية، إذ ما زالت للعراق مشاكله وبقيت أزماته، ولكنها دولة ذات إمكانيات كبيرة تستطيع عند اللزوم أن تتميز وأن تتقدم رغم التركيبة الطائفية للحكم التي زرعها الأميركيون، وجعلت رئيس الجمهورية عراقياً كردياً ورئيس الوزراء مسلماً شيعياً ورئيس البرلمان مسلماً سنياً، وهي أمور جديدة على العراق الذي كان يفاخر بتجانسه ويسعد بوحدة أجزائه.
خامساً: يدرك الجميع أن الشعب العراقي أبي بطبيعته يبدو أحياناً خشناً بفطرته لا يقبل الهوان ولا يرضى بالظلم، لذلك فإنه يثور نتيجة حسابات تتصل بشخصيته الذاتية ومكوناته التاريخية، فهو الشعب الذي أسقط الملكية في انقلاب دموي قاده عبدالكريم قاسم، وقد كان رجلاً مستقيم الخلق نظيف اليد، حتى بدأ العراقيون أخيراً يعيدون الاعتبار إليه، وهو الزعيم الأوحد الذي جرى إعدامه بالرصاص في مبنى الإذاعة في بغداد، فالتاريخ العراقي يبدو أحياناً دامياً أكثر من غيره في المنطقة، ثم توالت ثورات العراقيين إلى أن قفز صدام حسين إلى السلطة وأصبح علامة تاريخية– بما له وما عليه– في العراق الحديث، ولقد شهد العالم إعدامه على الهواء عبر شاشات التلفزة في مشهد لا يتكرر كثيراً والشعب العراقي في النهاية هو الذي يدفع فواتير شطحات حكامه وأخطاء قادته، مثلما هو الأمر بالنسبة لدول عربية أخرى.
سادساً: لا ينكر أحد أن الدور العروبي للعراق كان مرموقاً وملحوظاً خصوصاً في الصراع العربي- الإسرائيلي، وحروب القضية الفلسطينية كذلك فإنه يصعب اختزال تاريخ العراق الطويل في فترة معينة أو زمن بعينه، ولا نظن أن ما جرى له أخيراً يمكن أن يمحو ملامح عروبته أو ينال من مكانته، لأن أخطر ما كان يواجهه هو الإرهاب العشوائي من بقايا أنظمة سبقت وجماعات خرجت على القانون وعلى أطر الدول التي تنتمي إليها، وتحولت إلى عصابات إجرامية ارتكبت مجازر ضد المدنيين وقتلت الآلاف باسم الدين تارة وباسم الطائفية تارة ثانية، وأمعنوا القتل في غير المسلمين من أصحاب العقائد الأخرى وأتباع الديانات المختلفة بمن فيهم أهل الكتاب، ولا شك أن ذلك يعني ببساطة أن العراق يستعيد عافيته وإن كان هناك من يرون دائماً أن النفوذ الإيراني يتزايد، إلا أن شواهد جديدة قد بدأت توحي بعودة العراق إلى جذوره العربية من خلال العلاقات المتنامية مع المملكة العربية السعودية التي جرى تتويجها بمباراة لكرة القدم أخيراً، فضلاً عن العلاقات المتجددة مع جمهورية مصر العربية وغيرهما من دول العالم العربي، فالعراق كيان كبير يصعب الاستغناء عنه.
هذا طواف حول الدور العربي للعراق وهو دور حكمته الجغرافيا وأكده التاريخ، وسوف تظل مساهمته قائمة، وأنا على يقين من أن الخلافات الداخلية سواءً تلك المذهبية الدينية أو القومية العرقية لن تنال من دور ذلك البلد الذي صنع في العصر العباسي أمجاد الحضارة العربية الإسلامية التي ما زالت آثارها شاهدة حتى اليوم.
نقلاً عن الحياة اللندنية