بقلم : مصطفى الفقي
كلما ازدحمت الأحداث وادلهمت الأمور وتكاثفت السحب فى سماء الوطن فإن المرء يفتش فى ذاكرته ويبحث بين زوايا عمره عن المخرج الذى يجنبنا المهالك ويعطينا الحقوق ويردع الحاقدين، ولقد تعودت فى طفولتى وشبابى أن أبذل ما أستطيع من جهد للخروج من المأزق بأسلوب أخلاقى ومنطق عادل وبعدما أفعل كل ما أستطيع كنت ألجأ إلى أمى، رحمها الله، أطلب دعواتها الصالحات لكى يكون ذلك توقيعًا نهائيًا على ما فعلت من خير وما بذلت من جهد، وكان لدىّ إيمان عميق بأن دعواتها أقوى من كل شىء واجهته فى حياتى، وإذا اعتبرت أن الأم الحقيقية لنا جميعًا هى مصر فإن مسيرتها التاريخية وعطرها الروحى سوف يقهران حشود أردوغان وكيد السد الإثيوبى، وأنا ألاحظ أحيانًا أن هناك تساؤلات كثيرة تأتينى من أصدقاء أو حتى ممن لا أعرفهم يعبرون فيها عن ترقبهم الشديد للأحداث وقلقهم الزائد من حجم الحقد الذى يحيط بالكنانة ويعطى انطباعًا بأنها المستهدفة الأولى فى المنطقة، فالكل لا يريد لها أن تحلق إلى أعلى وأيضًا لا يطلبون لها السقوط الكامل لأن ذلك معناه انهيار المنطقة برمتها، فمصر عمود الخيمة وهى الدولة المركزية المحورية عبر التاريخ، ظلت خريطتها دائمًا واضحة غير منقوصة رغم الحروب والغزوات ورغم المؤامرات والتحالفات إلا أنها بقيت محتفظة بكيانها شامخة بآثارها مرتبطة بنهرها، وها هم الآن الأصدقاء والأشقاء يقفون من مصر موقفًا عدائيًا أو سلبيًا على الأقل فى جحود واضح ونكوص لا يخفى على أحد، وعندما كنت أقبل يدى أمى قبل الامتحانات فإن يقينًا عميقًا كان يستقر فى وجدانى بأننى سوف أجيب على كل الأسئلة بلا تردد وسوف أجتاز الامتحان بتفوق، واليقين الداخلى يصنع الإيمان، والإيمان هو الأب الشرعى للإرادة الصادقة، لقد غابت أمى عن عالمنا ذات يوم فى شهر يونيو عام 1997 وعندما كنت أكتب نعيها شعرت بأن الصفحة المشرقة من حياتى قد طويت، وأنه لا تقبيل لليدين ولا طلب للدعاء بعد ذلك خصوصًا أن أبى، رحمه الله، قد لحق بها بعد سنوات ثلاث، وكان رجلًا طيبًا صالحًا أتذكره الآن فى مئوية مولده التى تصادف الثانى من أغسطس القادم، فقد ولد عام 1920 وعندما رحل عام 2000 لم يكن يدرك هو ولا نحن أن عام 2020 سوف يكون هو عام الرياح العاصفة والأنواء الشديدة والكورونا اللعينة!. وها نحن الآن نتأمل المشهد لكى ندرك أن مصر، شعبًا وحكومة ورئيسًا، تواجه موقفًا غير مسبوق فى تاريخنا الحديث، وأنا شخصيًا- وبعد أكثر من ستين عامًا- فى متابعة الحياة السياسية الدولية والمحلية لا أكاد أعرف تحديات تحيط بنا وأحقادا تتراكم علينا وغيرة تنهمر فوقنا أشد بكثير من ضراوة الأمطار على هضبة الحبشة ليحجبها سد كيدى جرى بناؤه فى غفلة من الزمن، وفى ظل ظروف صعبة واجهتها المحروسة فى العقد الأخير، وأقول لنفسى دائمًا إن مصر عصية على السقوط، وإن النهر سوف يجرى على أرضها وسوف يدفع أعداؤها ثمنًا باهظًا لما فعلوه لأن الله يحمى مصر وفيها خير أجناد الأرض وأكبر تراث ثقافى وتراكم حضارى عرفته الدنيا وسجله التاريخ، إننا عندما نتذكر أمهاتنا من رحل منهن ومن بقى يجب أن ندرك أن البلد الذى احتوى أغلى تراث للديانات السماوية الثلاث والبلد الذى دافع عن المنطقة ضد قوى الشر من التتار والفرنجة ومستعمرى القدس لن يتوقف عطاؤه ولن يجف ماؤه ولن يخفت صوته، وأرانى فى مشهد صامت أقبل يدى أمى الراحلة وأبى الذى لحق بها لكى أقول لهما «إن مصر باقية تدحر كل عدوان، وتقهر الحملات الباغية، وتؤمن أننا نعيش فى أغلى الأوطان»