بقلم - مصطفي الفقي
لابد أن أعترف بانبهارى بكم المعلومات الوافية والتفاصيل الدقيقة التى يحوزها عقل أستاذ طب المسالك، والتى جعلته يستوعب تاريخ الأمم والممالك! ويدرك بفطنة كاملة طرفاً من معظم العلوم والفنون والآداب، إنه «وسيم السيسى»، الذى يبدو لى وكأنه دائرة معرفة متنقلة، بل يعيد إلى ذهنى نمط الشخصيات الموسوعية فى الحضارات المختلفة من نمط ابن سينا والفارابى وغيرهما فى التاريخ العربى، وقد كنت أتوهم فى البداية أن الرجل قارئ جيد لمراحل التاريخ الفرعونى وحده، ولكننى وجدت أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، بل إنه يصل إلى تذوق مماثل للحضارة الإسلامية، وهو المصرى القبطى الرائع، وقد استمعت إليه فى مناسبات مختلفة، وأدهشتنى قدراته، التى تجعل منه ذاكرة بشرية حية أحاطت من كل شىء علماً، وقد دعانى ذات مرة إلى صالونه الفكرى والثقافى متحدثاً، ووجدت لديه جمهوراً متميزاً ومريدين من طلاب المعرفة ومن المدركين لقيمة الرجل ومكانته، وهو يعلق على المحاضرة بدقة علمية وسرد فكرى يدعو إلى الإعجاب ويربط ربطاً ذكياً بين الأحداث ويتجول بين الحضارات فى رشاقة المفكر المتألق الذى يتنقل بين حدود الزمان والمكان، وهنا أستأذن فى أن أسجل نقاطاً ثلاثاً:
أولاً: إن ذلك النمط من الشخصيات الموسوعية قد بدأ يختفى من الحياة المعاصرة بدعوى المضى وراء منطق التخصص، مع الإحساس باتساع رقعة المعرفة وصعوبة السيطرة على أطرافها، وهو أمر صحيح فى ظاهره، ولكنه ينكر حقيقة أخرى مؤداها أنه لا تعارض بين أن يكون للمرء تخصصه الرأسى الذى يجيده ويتربع على عرشه وبين ثقافته الواسعة وإلمامه الأفقى بعلوم جديدة وأفكار مختلفة ورُؤىً متعارضة، فالقرار الإنسانى السليم هو ابن «جدلية المعرفة» ووليد الصراع الفكرى والعصف الذهنى، وأنا أظن هنا أن «وسيم السيسى» يجسد شيئاً كبيراً من ذلك.
ثانياً: إننى من المؤمنين بنظرية وحدة المعرفة، وأن مَن يدرك أركان المعرفة فى اتجاهات مختلفة هو أفضل بالضرورة ممن يحصر نفسه فى زاوية واحدة ويستغرق فى التفاصيل ويتوه فيها، فالمعرفة وحدة عقلية متكاملة غير قابلة للتجزئة، والذين لا يدركون هذه الحقيقة يعزلون أنفسهم عن متعة الرؤية الشاملة والنظرة المتكاملة، خصوصاً أن المعرفة هى أقوى أسلحة العصر وأشدها تأثيراً فى حياة البشر والصراعات المتعددة فيها.
ثالثاً: لقد اكتشفت من خلال قراءات امتدت بى من الطفولة حتى الآن أنه كلما زادت مساحة المعلوم فيجب ألا نتوقع أن تتراجع نسبة المجهول وفقاً لذلك، فالواقع أن الأمر يشير إلى شىء مختلف تماماً، فكلما زادت مساحة المعلوم اكتشفنا تلقائياً زيادة مساحة المجهول، وهذه ملاحظة خطيرة تُعتبر مفتاحاً أساسياً للمعارف المعاصرة والعلوم الحديثة، التى تولدت عن عملية تهجين بين بعض العلوم الأساسية، وخرجت بها إلى إطار مختلف، وأظن أن الدكتور «وسيم السيسى» قد أدرك ذلك مبكراً، فقام بعملية بناء ذاتى وحشد معرفى تمكن بهما من أن يكون هو ذلك المفكر الموسوعى الذى نراه، إن جدولة الذهن وترتيب الأولويات ووجود هيكل فكرى هى أمور تعين صاحبها على أن يترك بصمة فى زمانه ومكانه.
إننى أريد أن أسجل هنا أن عملية البناء الذاتى هى التى تجعل صاحبها متفرداً ومتميزاً ومختلفاً عن سواه، فالمفكر المصرى الكبير «عباس محمود العقاد» بنى مكانته على الجهد الذاتى فى التحصيل المعرفى، وينسحب ذات الأمر على كثير من مفكرينا وعلمائنا ممن استطاعوا فهم المتغيرات المحيطة وإدراك البيئة الثقافية والمناخ الفكرى، اللذين تتولد منهما الأفكار وتنبثق الآراء وتتكامل الرؤى، وأنا أظن أن الدكتور «السيسى» هو وريث للعبقرية المصرية التى يتطلع إليها الجميع، كما أنه سبيكة متفردة فى دراسات الحضارات وتاريخ الأديان المقارن، فضلاً عن الفهم المباشر لواقع الحياة، وأنا أظن أيضاً أن أستاذ الطب الجامعى كانت لديه نزعة وربما لاتزال، تجعله مشدوداً إلى إنجازات يسعى لتحقيقها وتفسير عدد من المواقف التى تحتاج إلى درجة عالية من الشفافية والتجرد حتى تتكون لدى المرء حصيلة ثرية من المعارف والعلوم، إننى أكتب اليوم عن «وسيم السيسى»، باعتباره- فى حد ذاته- ظاهرة تستحق الإشادة والتقدير وتقدم نموذجاً للأجيال الجديدة فى شخص مصرى متميز، لم يحجبه تخصصه العلمى الدقيق عن أن يمتلك نظرة أفقية ممتدة تربط الماضى بالحاضر وتوظفهما لخدمة المستقبل، إن هذا النموذج يطرح أمامنا وبقوة أهمية عصر المعرفة الذى نعيشه، واعتبار التاريخ الوطنى بل التراث الإنسانى مادة يمكن استخراج المواقف منها والبناء عليها.. تحية لباحث كبير تخصص فى طب المسالك، ولكنه تجاوزه للغوص فى أعماق التاريخ.. علم المهالك!.. تحية لعالِم ينقب فى التراث ويستخرج المشاهد الدالة على وحدة هذا الوطن وتماسك كيانه عبر العصور، وينسج فى عمق وبراعة من خيوطه المختلفة مسيرة للحاضر ورؤية للمستقبل، بل يزيد على ذلك متعة لقارئه وارتياحاً لمستمعه، ألم أقل منذ البداية إن «وسيم السيسى» موسوعى المعرفة يجسد حضارة المصرى القديم الذى يخاطب الأبناء والأحفاد؟.. إنه كذلك!