بقلم : مصطفى الفقي
يرتبط يوليو فى ذاكرتى بعدد من الثورات الوطنية والانقلابات العسكرية والأحداث المهمة فى تاريخ الأمم والشعوب، ورغم أنه يعبّر عن منتصف الصيف فى نصف الكرة الشمالى إلا أنه يحمل فى أحشائه أسبابًا متعددة للانفجار، ليس أهمها حرارة الجو بقدر ما هى روح الاسترخاء التى تسبق شهر الإجازات أغسطس بكل ما فيه من حرارة ورطوبة، والأمر لا ينسحب على كل المناطق الجغرافية بنفس الدرجة، ولكنه يختلف من إقليم لآخر، ونظل فى النهاية متطلعين إلى تغييرات كبرى وأحداث جسام، خصوصًا أن عام 2020 يأبى أن يمر دون أن يترك بصماته فى كل مكان ولدى كل إنسان، فهو عام كبيس بطبيعته، حمل معه قدرًا من العقوبات الإلهية للجنس البشرى كله، وأعاد إلى الأذهان عصور الأوبئة وسنوات الكوارث، ولكن الذى يعنينى الآن هو طبيعة التغييرات السياسية التى تلحق بشهر يوليو من كل عام.. إن فى تاريخنا الوطنى أحداثًا متعددة ووقائع تاريخية مهمة، ولكن يبقى الثالث والعشرون من يوليو عام 1952 محطًا للأنظار ومثارًا للجدل، وقد انطلق صوت المذياع من القاهرة يومها ليعلن قيام الجيش بحركة مباركة للتغيير والتطهير، ثم تواصلت البيانات والأحداث بدءًا من إقصاء الملك فاروق والإعلان عن ابنه الرضيع ملكًا تحت الوصاية، فكان الحدث مروعًا، فرح له الكثيرون بسبب ما كان يتردد عن الفساد الضارب فى أركان النظام السياسى ومؤسساته، بدءًا من السراى، مرورًا بقيادة الجيش، ووصولًا إلى المعدل السريع فى التعديل والتغيير الوزاريين حتى أصبحت الأوضاع السياسية عصيّة على الفهم، وكان لابد من خطة إصلاحية طويلة المدى تسعى لأن تحيل الفعل الثورى إلى برامج مدروسة بجدول زمنى واضح، ولكن ذلك لم يحدث، إذ ارتفعت أصوات داخلية وقوى أجنبية، بل سفارات غربية لتوجيه المسار على النحو الذى يحقق مصالح تلك الأطراف، وفى ظنى أن خلو 23 يوليو 1952 من مضمون فكرى وثقافى قد جعلها عرضة لكثيرٍ من مطالب التغيير، وقد اكتسبت اسم ثورة من شعبيتها، أما التغييرات التى أحدثتها فمازالت قضية خلافية بين كثير من المصريين، ولكن المحصلة النهائية لأحداث يوليو عام 1952 لا تزال جاثمة على الأرض، واضحة لكل ذى عينين، بعضها إيجابى وبعضها سلبى.. ولكن المؤكد أن معظم إجراءاتها قد جاءت بدوافع طيبة، ولكنها لم تجد التطبيق الصحيح ولا التنفيذ الرشيد، فكانت النتيجة أن بدت تلك الثورة محدودة فيما يتصل بتغيير الإنسان المصرى، رغم أنها رفعت شعارات العدل الاجتماعى والعدالة المفقودة التى مازالت محل دراسة وموضع بحث، وأنا أتمنى فى العيد الثامن والستين لتلك الثورة أن نتمكن من تقييم موضوعى وعادل لها، يعطيها ما تستحق، ويأخذ منها ما لا تستحق، فهى تعبير عن البحث الجاد فى العدالة الاجتماعية بامتياز، ولكنها فى الوقت ذاته لم تتمكن من توظيف الموارد التوظيف الأمثل، فأضاعت بعض الفرص، ولم تصل بأهدافها إلى الجوهر الذى انطلقت منه بل اكتفت بالشعارات، وإذا نظرنا إلى قانون الإصلاح الزراعى أول المشروعات الكبرى لتلك الثورة، فسوف نجد أنه قد أدى إلى تغيير شكل القرية المصرية، وحوّل الريف المصرى إلى نمط مختلف، بل ربما أدى أيضًا إلى تراجع مساحة الرقعة الزراعية وتناقص غلة الفدان، أما تأميم قناة السويس فهو حدث ضخم، ورغم بعض الأصوات المحدودة التى تتحدث عن عدم جدوى قرار التأميم لأنه كان قد بقى ما يقرب من ثلاثة عشر عامًا هى بقية عمر امتياز قناة السويس، لكننا نؤكد لهؤلاء وأولئك أن الغرب لم يكن ينتوى إعادتها لأصحابها، ولكنه كان يسعى إلى البقاء الأبدى فيها، وقد تكون حرب اليمن هى المقدمة التى وصلت بثوار يوليو إلى نكسة عام 1967، وفى ظنى أننا مازلنا نعيش أصداء ذلك اليوم من عام 1952 ونتصرف وفقًا لرؤية جديدة لم تكن متاحة من قبل، والتى كان من نتائجها التوسع الكمى فى حياتنا، وتراجع التجويد الكيفى فى أعمالنا، حتى أدى الانفجار السكانى إلى وجود قنبلة موقوتة اسمها الفقر، وذلك كله رغم الجهود المضنية والمحاولات المستميتة للإصلاح عبر العقود الأخيرة.. ولكن يبقى يوليو شهر الثورات والذكريات والتحديات.