بقلم : مصطفى الفقي
تذكرت الناقد الفنى الكبير طارق الشناوى طوال أسابيع «الحبس الاحتياطى» بالمنزل جراء فيروس كورونا، ذلك أننى عكفت طوال تلك الفترة على قطع الملل بالقراءة ثم بمشاهدة الأفلام العربية القديمة- الأبيض والأسود- والتى تذكرنا بسنوات الطفولة والشباب الباكر، ولقد بهرتنى السينما المصرية بتاريخها العريق بعد أن جاوزت المائة عام بما يقرب من عقدين وتركت بصماتها القوية على المنطقة العربية والقارة الإفريقية وذاع صيتها وانتشر تأثيرها وظهر على شاشتها عمالقة لا ننساهم أبدًا، لقد عشت مع استيفان روستى، وعبدالفتاح القصرى، وعبدالوارث عسر، وشرفنطح، وبشارة واكيم، وعباس فارس، وسليمان نجيب، وسراج منير، وزكى رستم، وأنور وجدى، وتحية كاريوكا، وهرم الكوميديا نجيب الريحانى، والملك فريد شوقى، بالإضافة إلى الأصوات الرائعة من أمثال عبدالوهاب، وفريد الأطرش، وعبدالحليم حافظ، ومحمد فوزى، وكارم محمود وغيرهم، فضلًا عن الأصوات النسائية الرائعة من ليلى مراد، إلى شادية، إلى هدى سلطان، إلى فايزة أحمد ولن أستطيع الإحاطة بكل الأسماء فما أكثرها، ولكننى اكتشفت أن هناك نماذج لمطربين ومطربات كبار كانوا يجيدون التمثيل حتى بغير غناء وأذكر منهم شادية، وعبدالحليم حافظ، وهدى سلطان، وكذلك راقصات يستطعن أداء الأدوار حتى وإن لم يرقصن فيبهرن المشاهدين بالتعددية اللافتة والتى لا يستطيع أحد أن ينكرها، ولعل نموذج تحية كاريوكا هو المثال الرائع لذلك. ونتذكر أيضًا «أبو المسرح المصرى» يوسف وهبى وحنجرته الجهورية التى يعتمد عليها مع طريقة حديثه الخاصة، كما أن سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة تحتل مكانة متميزة وإن كانت حبيسة أدوار يمتزج فيها النقاء بالطيبة والبعد عن الشر ولكنها أجادت أدوار فتاة المدينة وفلاحة القرية، أما فتى الشاشة اللامع رشدى أباظة فحدث عنه ولا حرج فإن له جاذبية خاصة اعترفت بها الفنانات من كل المستويات، أما شكرى سرحان فهو ابن القرية المتعلم الوقور المحترم بشعبيته الطاغية فى عصره، وأحمد زكى الفنان المرموق فى كل أدواره، وتبقى السندريلا سعاد حسنى متربعة على عرش الفتاة المصرية التى تجيد كل الأدوار وتملك من التعددية الشخصية ما يجعلها تمثل وتغنى وترقص. وحدث بعد ذلك بغير حدود عن الجيل الجديد من ميرفت أمين إلى يسرا، وليلى علوى وأعلام السينما من الشباب مثل أحمد حلمى ومنى زكى، ولا ننسى أسماء كبيرة مثل مريم فخر الدين، ونادية لطفى وقبلهما مديحة يسرى، ويبقى عادل إمام نسيجا وحده فى تاريخ السينما المصرية التى استطاع فيها أن يوظف الفكاهة والسخرية فى خدمة القضايا الوطنية والأفكار العصرية.
لا أستطيع أن أستطرد فى الأسماء فهناك عشرات أخرى لا يقلون قدرًا عمن ذكرتهم وهم جميعًا يمثلون رصيدًا رائعًا للقوى الناعمة المصرية على امتداد قرن أو يزيد. إن السينما استطاعت أن تقدم إنتاجًا كبيرًا من نمط (صلاح الدين) لصديقى العبقرى يوسف شاهين فضلًا عن إنتاج فيلم (وا إسلاماه) والروائع الأخرى المرتبطة بتاريخنا الوطنى وثورة يوليو ونتائجها الاجتماعية والثقافية على المصريين، كذلك فإن العلاقة بين الأفلام من إنتاج الدولة والأخرى من أفلام القطاع الخاص تؤكد أن مصر قادرة على استيعاب التنوع فى كل مراحل تاريخها، ولقد أزعجنى دائمًا محاولات شطب صورة الملك فاروق من المشاهد التى تأتى فيها وكأن ذلك هو القربان الحقيقى لثورة يوليو 1952 وهذا عبث لا جدال فيه، فالتاريخ هو التاريخ، ولقد كنت حريصًا على أن أكتشف تاريخ إنتاج كل فيلم لأربطه بمرحلته ولاحظت أن السينما المصرية من منتصف الأربعينيات حتى ظهور التليفزيون قد تألقت بشكل ملحوظ ثم تدفق إنتاجها العصرى بعد ذلك بأفلام تستهدف إرضاء سوق المشاهدين قبل أذواق الناقدين والعارفين وقد بهرنى التنوع فى اختيار بعض الموضوعات، وقد يختلف النقاد الكبار فى توقيت ميلاد الفيلم المصرى العصرى، فالبعض يفكر فى فيلم العزيمة لمخرجه كمال سليم أو فيلم باب الحديد أو فيلم رد قلبى، ولقد اكتشفت أنه من السخرية أن تسأل مخرجًا كبيرًا عن رأيه فى غيره فقد كنا نجلس ذات مساء فى أمسية بمنزل صديقى الراحل محمد نوح وكان معنا يوسف شاهين وعدد آخر من أقطاب السينما المصرية فتبرع صديق لنا وسأل يوسف شاهين عن أهمية فيلم العزيمة فى تاريخ السينما المصرية فأفلتت أعصاب يوسف وقال: من هذا الحمار الذى يسأل؟!.
وأتذكر ذات يوم أننا كنا نحتفل بعيد الميلاد الخامس والسبعين للفنان العالمى عمر الشريف فى فيلا ابنه بمرتفعات القطامية أنا وصديقى د. زاهى حواس ومجموعة من أهل الصحافة والفن، وتورطت بالحديث عن يوسف شاهين مادحًا ومقدرًا، ولما كان عمر الشريف قد أنهى الكأس الثالث فقد انفعل بشدة وقال: ليس من حق أحد أن يتحدث عن يوسف شاهين إلا أنا، فأنا الذى أعرف ما لا يعرفه أحد.
.. واضطربت الجلسة وشعرت بتحول كبير فى شخصيته من الترحيب الزائد بى إلى الانفعال الشديد علىّ، وكانت هذه طبيعته التى نعرفها لذلك الفنان الراحل، وقد ظل طوال تلك الأمسية يقلد لنا الشيخ الشعراوى فى أحاديثه الدينية وقال إن من آماله أن ينتج فيلمًا عن الشيخ وشعبيته وأن يقوم هو بدوره وكان ذلك مثار دهشة لنا جميعًا، ولقد أسعدنى كثيرًا من تاريخ السينما المصرية أنها كانت تمثيلًا حقيقيًا لمفهوم الوحدة العربية والتعبير الحقيقى عن القومية المشتركة ففى الفيلم الواحد مصريون وشوام وعراقيون، وتختلط الأصوات المسلمة بالأصوات المسيحية والأصوات اليهودية أيضًا، فالفن لا وطن له ومصر بوتقة تنصهر فيها كل التيارات والديانات والثقافات، وكان لا يمكن أن تكتمل المنظومة بدون صوت كوكب الشرق أم كلثوم فى بداية كل يوم وفى نهايته فقد كانت هى التطعيم المتاح ضد الوباء اللعين. فهل يغفر لى الناقد الكبير طارق الشناوى- الذى يمزج الفن بالسياسة ولا يغفل عن التحول الاجتماعى فى كل فترة- وهو الصديق الذى أقرأ له كل ما يكتب منذ سنوات طويلة، تطاولى اليوم فى الحديث عن السينما المصرية التى اقتربت منها بسبب محنة كورونا وتداعياتها التى لم تتوقف بعد؟