عمار علي حسن
ظل يسير دون أن يعرف أنه سيصل إلى دائرة الدم والنار والحماسة المتناهية فى ميدان التحرير. دخل بأقدامه العالية باب التاريخ وأوصد خلفه وترك الطغاة يتخبطون فى المساحة الهائلة للظلمة والكآبة. ما خُلق لهذا أبدا، لكنها الأقدار، أو هى إرادة صاحبه الجهول الذى لم يكن يحسب أنه يسجل خطواته فى الاتجاه الخاطئ، وأن الأقدام ستدوسه فى «ميدان التحرير».
كثيرون يبذلون جهدا خارقا كى يسمى الناس أشياء بأسمائهم: بنايات، حارات، شوارع، ميادين، أحداث مشهودة. أما هو فقد رآه العالم كله فى لحظة خاطفة ثم استقر اسمه عنوانا للحظة فارقة بين الصواب والخطأ، بين الحق والباطل، وبه حسم كل المترددين والحائرين مواقفهم. خرجوا ليدقوا الهواء بأيديهم فيسوقون الريح إلى حيث يجلس الطاغية العجوز ليهتز عرشه ويترنح ثم يسقط إلى الفراغ، ومنه إلى عتمة التاريخ.
ظل سنين فى ذهاب وجيئة عبر الرمل الممتد إلى آلاف الأميال، يحمل صناديق السلاح، ويمشى بطيئا فوق «درب الأربعين» وسط العشرات من بنى جنسه، وأمامها صاحبه على ناقة بيضاء ذات أذنين مقطوشتين، يغنى مواويله التى لا تنتهى، ليسلى نفسه وإبله الطيبة المطيعة:
«يا ريس البحر خدنى معاك من البر أحسن لى
أتعلم الكار بوسع البال أحسن لى
أزود بمدرة، أجر لبان أحسن لى
طلعت ألم القلوع لقيت العويل أطول من الصارى
رميت المدارى وقلت البر أحسن لى»..
كان الرجل يحب هذا الجمل، الذى تحبه ناقته، وتأثر جدا إلى درجة البكاء يوم بيعهما معا بعد أن تقدم بهما العمر وصعبت عليهما رحلات الصحراء الوسيعة، لكنه اشترط على من اشتراهما ألا يذبحهما، فأطرق الرجل صامتا لبرهة ثم قال:
ــ حاضر.
ـ وعد.
ـ وعد.
ـ نقرأ الفاتحة.
ـ نقرأها.
ومد يده وعاهده. وفى اليوم التالى حملهما من السمطا فى قنا إلى نزلة السمان وباعهما دون عناء، فصارا قاربين للزينة، بعد أن كانا سفينتين طالما مخرتا فى عجيج الرمل السفساف، وداست خفافهما الحصى والصخور.
فى النزلة كل العائلات تعمل بالسياحة، والجمل وناقته يعملان بها. لكنهما لا يعرفان عند أى عائلة استقر لهما المقام، ولا يسمعان عن عائلات الجابرى وخطاب وفايد والشاعر والحلو والقماطى والوليلى وأبوباشا وأبوزيد وأبوبريش وأبوعزيزة وغنيم وتركى.
وعلى بعد مسافة قليلة من المكان الذى يبيتان فيه كان الجمل والناقة يعملان طيلة النهار وأول الليل. ما إن يسمعا صوت الولد الذى يدور حولهما كأنهما مزاران صوفيان قديمان: إخخخخ، حتى يهبطا من عليائهما ويعدان ظهريهما لاستقبال أجساد متتابعة، جاءت من أماكن عديدة. ثم يقفان على مهل، ويسيران إلى حيث يريد الولد، وإرادته مرهونة بقدر ما دفع له السائح الغريب، أو ابن البلد القريب، الذى جاء ليقضى نزهة مع أولاده عند سفح الأهرامات.
(نكمل غدا إن شاء الله تعالى)