توقيت القاهرة المحلي 11:38:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصورة الأخيرة (1-2)

  مصر اليوم -

الصورة الأخيرة 12

عمار علي حسن

فى تدفقه المتواصل يذهب الزمان بملايين الكتب وبلايين الوجوه التى مرت على الدنيا، ومعها كل الصور التى تجلت للعيون فى لحظات المسرات والأوجاع، لكن الناس ليس بوسعهم أن ينسوا أو يهملوا صوراً خاطفة، لم يأتِ اختطافها ولن يأتى على عمقها وأصالتها وديمومتها واختزالها لكلمات لا حد لها. وكثير من الشخصيات البارزة فى تاريخ الإنسانية ساهمت الصورة الأخيرة فى صناعة مآثرهم، أو أضافت إليهم، أو خففت من غلواء نقدهم وجلدهم، وغفرت لهم بعض أخطائهم وخطاياهم. وربما لو انتهت حياتهم من دون هذه الصورة الفارقة لنقص الكثير من قدرهم ودورهم التاريخى المشهود له، ولما جنوا من حياتهم المديدة سوى اللعنات القاسية. فالصورة الأخيرة للثائر الأرجنتينى تشى جيفارا ساهمت فى تخليد ذكراه، لما انطوت عليه من تحدّ كبير لمن قتلوه، ولما رمت إليه من نظرة إلى البعيد، كأنها تقول إن ما أؤمن به سيظل قائماً والثورة ضد الإمبريالية لن تنقضى بموتى، والثوار باقون ما دام هناك ظلم واستغلال. ولم تدر المخابرات الأمريكية أن هذه الصورة، التى سربتها لتلقى الروع فى قلوب كل من يؤمن بأفكار «جيفارا»، ستؤدى إلى نتيجة مغايرة تماماً، وأن صورة عينيه المنبلجتين فى موت محقق ستصبح أيقونة لعشرات الملايين فى العالم، وستجعل من صاحبها لوحة خالدة على جدران بيوت ومنازل فى القارات الست. والصورة الأخيرة لياسر عرفات اختزلت كل فصول حياته المترعة بالشقاء والكفاح. فالرجل ظهر هزيلاً متآكلاً وهو يصعد سلم الطائرة الأردنية التى أقلته إلى عمان ومنها إلى باريس حيث فاضت روحه. كان متعباً إلى أقصى حد، وقبل أن يدلف إلى داخل الطائرة، التفت ولوح لمودعيه بيد مرتعشة، لكن بعينين مملوءتين بالأمل والثفة، وبدا ثيابه وغطاء رأسه الرمادى وكأنهما تعبير عن المرحلة التى وصلت إليها القضية الفلسطينية، إذ رحل «عرفات» والفلسطينيون فى منتصف الطريق، جاءوا من المنافى والشتات وأسسوا سلطة فى بعض أراضيهم، ودخلوا فى مقاومة مشهودة بلغت ذروتها فى انتفاضة الأقصى التى اندلعت عام 2000، لكنهم لم يتمكنوا بعد من أن يحولوا السواد إلى بياض كامل، بتحرير أرضهم وإعلان دولتهم المستقلة ذات السيادة. وصورة «عرفات» تلك لم تعبر فقط عن القضية التى كرس حياته من أجلها، بل تُجلى أيضاً جانباً من هذه الحياة نفسها. فـ«عرفات» الذى قررت إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة التخلص منه عاش حياة بسيطة متقشفة، فرغم أنه كان يضع يديه على أموال منظمة التحرير الفلسطينية فإنه لم ينزلق إلى رغد من عيش ينسيه طبيعة دوره ووضعه كرمز لقضية عادلة، فاكتفى بزى واحد، توزع على ثلاث بذلات لا أكثر، ونام فى مقره بالمقاطعة فى رام الله على سرير بسيط، وكانت طاولة الاجتماعات التى يلتقى عليها رفاقه صغيرة ورخيصة، لا تختلف عن كل المكان الضيق المتواضع الذى كان يعيش فيه. وجاءت الصورة الأخيرة لتؤكد هذا المعنى وذلك المسار الحياتى لـ«عرفات»، فغفرت له الكثير من أخطائه، ووضعته لدى الشعوب العربية والإسلامية وكل الذين يدافعون عن الحقوق العادلة فى مشارق الأرض ومغاربها فى مصاف المجاهدين والمناضلين العظام الذين عرفتهم الإنسانية فى عمرها المديد. ولو مات صدام حسين من دون مشهد إعدامه الذى تسرب إلى الفضائيات فنقلته للبشرية جمعاء لكان قد خسر الكثير. فـ«صدام» الطاغية الذى حكم بلاده بالحديد والنار واستعذب مشاهد الدم فى قتل خصومه ومعاركه الخاسرة، وجد من يذرف عليه بعض الدموع، لأنه رحل واقفاً كما يرحل النخل، لم ينحنِ أمام المشنقة، ورفض أن تُغمّى عيناه، ومضى إلى مثواه الأخير ثابتاً، لم يجرجر قدميه أو يترحم مثلما يفعل الذين يساقون إلى المشانق، ثم نطق بالشهادتين، وسقط إلى نهايته المحتومة. هذا المشهد تحدث عنه كثيرون فى الشوارع وعلى صفحات الصحف وفوق الحيز الإلكترونى على شبكة الإنترنت، وفاضت له عواطف لا حد لها، وصلت بالبعض إلى تمجيد «صدام» لأنه لم يخف من أحد ولا من شىء حتى ولو كان الموت، وغفر له آخرون كل خطاياه لأنه «عاش رجلاً ومات بطلاً» حسب مانشيت إحدى الصحف المصرية. وحتى الذين احتفظوا بأحكامهم العقلية حيال الرجل، والتى لم ترَ فيه سوى أنه مستبد ومتوحش وأحمق، تزحزحوا قليلاً بفعل المشهد الأخير، واستثنوه فى الحكم على مسار «صدام» ومسيرته. ورأى بعض المتعاطفين معه أن الطريقة التى أراد بها «صدام» أن ينهى حياته انطوت على شعوره الكبير بعدالة قضية بلاده، وأن حزبه الذى تركه مشتتاً فى جنبات العراق وغيرها، سينتصر فى النهاية على آلة الحرب الأمريكية ومن يعاونها. (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى) نقلاً عن جريدة " الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصورة الأخيرة 12 الصورة الأخيرة 12



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon