عمار علي حسن
لم تكن الثورة عند نجيب محفوظ أمراً متعيناً فى واقعه المعيش، وفيما يبدر عنه من سلوك وتصرفات. فالرجل كان يميل إلى الإصلاح الهادئ والناعم، ويختار مأمون العواقب من الأفعال والأشياء، وينفر من الدم والإرباك قدر نفوره من نزعة التسلط التى تنتاب بعض الراغبين فى التغيير الجذرى والجائح تحت طائلة «الشرعية الثورية» أو مواجهة «الثورة المضادة» عبر الإقصاء والتطهير. هكذا بان فى موقفه من ثورة يوليو، حسبما تجلى فى ثنايا بعض رواياته، أو فى تعليقاته المقتضبة التى نقلت عنه، ونسبت إليه.
لكن محفوظ هو ابن شرعى لثورة عظيمة فى تاريخ مصر، وما أبدعه من أعمال سردية هبة لهذه الثورة، ليس لأنها انعكست فى أعمال عديدة له، موضوعاً ومضموناً وسياقاً وشخصيات ورؤى ومشاعر، بل لأنها شكلت وعيه بالمجتمع والعالم، وعاشت معه طيلة حياته، ينهل منها ويحن إليها ويقيس عليها. إنها ثورة 1919 التى أحبها حباً جماً، وارتبطت فى ذهنه بالتحرر والراحة، وهو ما يعبر عنه فى كتابه الأثير «أصداء السيرة الذاتية» قائلاً: «دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروساً بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن، بيدى كراسة وفى عينى كآبة، وفى قلبى حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقىّ شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضاً. غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد».
وظل سعد زغلول هو الزعيم السياسى والرمز الوطنى المكتمل فى نظر محفوظ، فما صوره إلا فى أبهى الصور، وما أتى على ذكره إلا بأنبل وأفضل الكلمات فى الغالب الأعم. هكذا يحصى ويجلى لنا مصطفى بيومى فى كتابه المهم «سعد زغلول فى الأدب المصرى»، وهكذا نعرف من تتبعنا لما يقوله عنه أبطال الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) وما ورد فى كتابه المختلف «أمام العرش». فهذه الصورة تبدأ باهتة قبل انطلاق الثورة، مثلما نفهم من كلام أحمد عاكف بطل «خان الخليلى» حين يقول عن سعد رغم حبه له واتخاذه مثلاً أعلى: «لقد مهد له صهره سبل النجاح، ولولا صهره ما كان سعداً الذى نعرفه»، بل إن طاهر الأرملاوى أحد شخصيات رواية «قشتمر» يبدى رأياً أكثر وضوحاً وصراحة حين يبوح بأن والده ليس معجباً بتاريخ سعد. وبينما لا يلقى ياسين عبدالجواد بالا لسعد حين يذكر اسمه أمامه كأحد أعضاء الوفد الذى ذهب للتفاوض مع الإنجليز، يبدأ أخوه فهمى فى تكوين فكرة أولية عن الزعيم، فيعول عليه مع الأيام أن يكون مثل مصطفى كامل ومحمد فريد، لنصل إلى الشيخ هجار المنياوى أحد شخصيات «المرايا» الذى يعلم تلاميذه طرفاً من سيرة سعد، والشيخ متولى عبدالصمد، أحد شخصيات الثلاثية، الذى يضيف اسم سعد إلى دعائه المسترسل الدائم.
ومع اندلاع الثورة ننتقل مع محمد عفت أحد شخصيات «الثلاثية» أيضاً إلى وضع مقدس لسعد، حين يقول عنه: «أثبت دائماً أنه جدير بإعجاب المعجبين، أما حركته الأخيرة فهى خليقة بأن تحله من القلوب فى أعز مكان»، بل يصل الأمر عند فهمى عبدالجواد إلى أن يشبه مهمة سعد بمهام الرسل الكرام، حين يقول: «سيعمل سعد ما كانت الملائكة تعمله»، ويطلب أحمد عبدالجواد من جميل الحمزاوى، العامل فى متجره، أن يعلق صورة سعد تحت البسملة، لأنه فى نظره صاحب كرامات.
ويصل الأمر بإسماعيل قدرى فى «قشتمر» أن يجيب عندما يسأله أصدقاؤه عن تخيله لله سبحانه وتعالى: «لعله شىء مثل سعد لكنه يمارس سلطانه على الكون كله». ويؤكد منصور باهى الماركسى، أحد شخصيات رواية «ميرامار» هذا المعنى، حين يقول عنه سعد: «لقد عبده الجيل السابق عبادة». وحين يموت يتحول تاريخ وفاته إلى سنة تقاس عليها الأيام، إذ يقول عفت: «نحن فى السنة الثامنة بعد وفاة سعد»، ليصبح سعد: «رجل ولا كل الرجال، لبث لحظة من الحياة باهرة ثم مضى»، ليترك حزناً دفيناً حتى فى نفوس الأطفال، كما نعرف من الحكاية رقم (23) من «حكايات حارتنا»، إذ يروى بطلها الطفل: «... أثب من الفراش مندفعاً نحو الباب المغلق، أتردد لحظة ثم أفتحه بشدة لأواجه المجهول. أرى أبى جالساً. أمى مستندة إلى الكونصول. الخادمة واقفة عند الباب. الجميع يبكون. وترانى أمى فتقبل علىّ وهى تقول: أفزعناك.. لا تنزعج يا بنى. أتساءل بريق جاف: ماذا؟ فتهمس فى أذنى بنبرة مختنقة: سعد زغلول.. البقية فى حياتك!، فأهتف من أعماقى: سعد!، وأتراجع إلى حجرتى، وتتجسد الكآبة فى كل منظر».
(نكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة "الوطن"