عمار علي حسن
ابتسم الملك الفرعونى زوسر نثرخت بفمه الوسيع فاختفت التجاعيد التى تكسو وجهه المثلثى الصارم وأشرقت عيناه الغائرتان. حين وصل إلى أذنه هتاف «سلمية.. سلمية». رفع يده الحجرية الراقدة على صدره منذ آلاف السنين، وتلك التى وضعها على وسطه، وراح يصفق بكل ما أوتى من قوة، ثم تحرك، وفتح الصندوق الزجاجى الذى وضعوه فيه، ليتفرج عليه القادمون من وراء البحار العميقة، وتحرك فى المتحف، حتى وصل إلى بابه الوسيع المقوس. مرّ من جانب الحراس دون أن يروه، بعد أن استعان بالسحر القديم فتحول جسده الصخرى إلى دفقة من نسيم، وخرج ليتجول فى ميدان التحرير.
سمع ضجيجاً فى هذا المكان قبل سنوات خلت، وتابعه مبتسماً من صندوقه الزجاجى، لكنها المرة الأولى التى يكون فيها الهتاف هادراً، وتقتحم أذنيه الكلمة التى كرّس حياته لها «سلمية»، حين أطلقها قلبه العامر بالرغبة فى التغيير، وإصلاح عقائد الناس.
كانت سنوات حكم الطاغية تتوالى، وزوسر يعدها فى محبسه الشفاف، ويسأل نفسه: هل تزيد عن أيام بقائى أنا فى الحكم؟ ويقول لرفاقه فى المتحف العريق:
- أنا الجسد المقدس، حكمت تسعة وعشرين عاماً، ومددت حدود بلدى جنوباً، وراكمت ثروة طائلة من تركواز سيناء ونحاسها، وبنيت أول هرم عرفه البشر، وأصلحت للناس دينهم، وسجلت كل هذا فى بردية تورين.
يعلو صوته فينفذ إلى القاعات الفسيحة والجدران العالية والردهات الممتدة، فتسمعه مومياوات زمن توت غنخ آمون، وتماثيل من عايشوا بناة الأهرامات الثلاثة الكبرى، وآثار الدولتين الوسطى والحديثة وأيام الإسكندر الأكبر، والتحف الراقدة فى أقسام البردى، وقطع العملة، والجعارين العجيبة.
يثرثرون جميعاً حين يأتى الليل، وتعلو الهمسات إلى صياح دون أن يسمعها أحد من الذين يأتون ويذهبون بلا انقطاع. يصل إليهم دبيب المارين فى الخارج، أقدام البشر وحوافر البغال والجياد، وخفاف الجمال، ثم أقدام بشر جدد وإطارات السيارات وأبواقها. ويتعجبون من كل ما يجرى حول المتحف الكبير، ويحزنون على أحفادهم الذين انحدروا إلى أسفل سافلين.
كان زوسر وحده يعرف أنهم سيأتون يوماً، وأن دبيبهم المتفرق فى كل الشوارع والممرات المحيطة بالمتحف سيتجمع ويقوى ويصير هديراً مهيباً، وأنهم سيقفون صفوفاً هنا أمام الباب المقوس دفاعاً عن أجدادهم الذين يقفون فى الداخل بين الزجاج النظيف، أو ينامون على ظهورهم ويبتسمون.
يمضى زوسر بين الحشود دون أن يراه أحد، حتى يصل إلى الكعكة الحجرية. وينصت إلى الحوارات التى تصنعها أفواه تمردت على الصمت الطويل. ويتذكر مهندسه المعمارى البارع أمحوتب، ويقول فى نفسه:
- من بينهم بارعون مثله، يتوقون إلى بناء أهرامات جديدة ليست من حجر.
ويسمع أحدهم يصرخ:
- انتهى عهد الفراعنة.
يضحك من كل قلبه، ويود أن يقول له، لكنه لن يسمع:
- حملتمونا فوق طاقتنا، ووصلت إليكم أخبارنا مبتورة، وخلعتم علينا جميعاً أخطاء وخطايا قلة منا. كنا عظماء مهابين، لكن المتجبرين بيننا كانوا قلة، لأننا آمنا بالناس وتآلفنا معهم، وفهمنا أن المعابد التى تسندنا خاوية من غيرهم، حتى لو امتلأت بالكهنة.
راح يتفرس فى وجوههم جميعاً، ليتبين من يشبهه فيهم، ومن لا يشبهه أبداً. وتناهى إلى سمعه صوت شاب يقرأ فى كتاب تحت إحدى اللمبات المدلاة من عمود إنارة فى وسط الميدان، وحوله يتحلق كثيرون، لينصتوا إلى تفاصيل أول ثورة فى تاريخ البشرية. يقرأ ويغلق الكتاب قليلاً، ويشرح ما سمعوه.
كان يقص عليهم ما ساقه الحكيم من أن سبب هذا الهياج العظيم هو تفشى الظلم واتساع الهوة بين الناس، حيث كانت قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعانى من قسوة الجوع، الذى بلغ مداه، فأكل الناس العشب، واكتفى بعضهم بشرب الماء، وعز على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه، بعد أن نفدت الغلال من الصوامع، وتُركت الماشية تهيم على وجوهها، فهجم الناس عليها وذبحوها والتهموها، حتى فنيت، ووصل الأمر إلى حد أن الناس كانوا يخطفون القاذورات من أفواه الخنازير. ومات خلق كثر، ملأت جثثهم الشوارع والنهر، حتى أصبحت التماسيح تزاور بعيداً عنها، بعد أن أكلت حتى الشبع.
ينظر الشاب إلى من ينصتون إليه ويواصل:
- حين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور الحكام والأثرياء، فقتلوا من فيها، ونهبوا ما بها، وأشعلوا النيران فى كثير منها، وصار الشعار الذى يسرى فى البلدات الرابضة على ضفتى النيل هو: «لنطرد أصحاب الجاه من بيننا».
وترك الثوار بيوت ذوى المال والسلطة خراباً تنعق فيها الغربان، فصار هؤلاء أذلاء من بعد عز، وجوعى من بعد شبع، وبؤساء من بعد تنعُّم، وهام كثيرون منهم على وجوههم بلا عمل ولا سلطة. وبلغ الانتقام مداه من أبناء الأمراء وأحفادهم ومومياواتهم. واستولى الفقراء الجوعى على ثروات هؤلاء وتحفهم الثمينة، من دون أن يعرفوا لها قدراً، أو يوجد سبيل لبيعها، بعد أن انهار العمران تماماً، وانتشرت الأوبئة فى كل مكان.
(نكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة "الوطن"