بقلم ـ مصطفى الفقي
تبني الأمم قواعد مجدها وتشيّد مستقبل أجيالها من أجل غد أفضل، فكما أن مستقبل الفرد هاجس يلح عليه ويستحوذ على تفكيره. كذلك فإن للشعوب عقلاً جمعياً يفكر هو الآخر في المستقبل المشترك طلباً للاستقرار ورغبة في الخروج من عصر تضاءلت فيه الفرص وقلّت المواقع الحاكمة وأصبحنا أمام مجتمع مختلف في دولة لم تعد كما كانت. من هنا أصبح التهيؤ للمستقبل في حد ذاته خروجاً من شرنقة الماضي وحلاً لأزمات الحاضر.
وإذا كان التاريخ العربي حافلاً بموجات الصعود والهبوط إلا أنه يبقى دائماً تاريخاً متجانساً بين أقطاره وشعوبه. وإذا أردنا أن نتحدث عن المستقبل بنظرة موضوعية فإننا نطرح عدداً من القضايا لنتأمل من خلالها ما ستسفر عنه العقود المقبلة. فإذا كانت الدول تخطط لعام 2030 مثلاً فإن على العرب أن يطرحوا مدداً أطول لأن قدرتهم على الحركة السريعة لم تكن مشهودة في العقود الماضية.
ولذلك فإنني استشرف المستقبل العربي في العام 2050 وأطرح عدداً من المسائل الحيوية أهمها، أولاً: لعل أكبر عوار تعاني منه النظم الحاكمة في العالم العربي هو ضعف المشاركة السياسية ونقص الوجود الديموقراطي وغياب الرأي الآخر ورفض خيارات الغير، لذلك عكفت أجهزة الإعلام المعادية على إبراز هذه السلبيات إلى حد إخراج العرب أحياناً من دائرة العصر ودمغهم بصفات لا يستحقونها، ولكنها الرغبة في تشويه الصورة، خصوصاً أن الإرهاب خرجت عناصره من المنطقة العربية بعد أن ولدت فيها بسبب ظروف نجمت من اختلاط الدين بالسياسة والفهم المغلوط واتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم؛ فضلاً عن الصراع الطبقي المكتوم إلى جانب شيوع الفساد في بعض الأنظمة وإحكام قبضة الاستبداد في بعضها الآخر. لذلك فإنني أظن أن البداية الطبيعية تأتي من إطلاق الحريات وتدعيم التمثيل النيابي والعناية والاهتمام بالتعليم والعناية بالرعاية الصحية مع موقف نهائي يؤدي إلى تحرير المرأة والتوقف عن استخدام الإسلام الحنيف مبرراً لفرض قيود عليها وهو الدين العظيم الذي أعطاها حق التعليم والعمل بل وأفرد لها ذمة مالية مستقلة. فإذا قطعنا أشواطاً على هذا الطريق فإننا نكون عبَرنا بوابة التخلف وانتقلنا إلى الآفاق الرحبة للرفعة والنهضة والمضي وراء مشاريع تنموية تشد المجتمعات العربية إلى الأمام.
ثانياً: إن الموارد الاقتصادية في العالم العربي تتصف بالوفرة في مجملها ومع ذلك فإن الفقر ينهش في بعض شعوبها بل ولدى بعض الطبقات داخل الشعب الواحد. لذلك فإن التوظيف الأمثل لموارد العرب الاقتصادية؛ سواء أكانت طبيعية أم بشرية؛ هي واحدة من الأولويات التي يجب أن ترتبط بمشاريع المستقبل على الأصعدة كافة، فالثراء الظاهري لا يدل على مكانة النظم الاقتصادية بل إن الصناعة والزراعة والسياحة هي عمد رئيسة في بناء الدولة الحديثة اقتصادياً والقادرة على الوفاء بحاجات المواطنين وتوفير فرص العمل لأجيالها الجديدة. وإذا كان لدينا من الموارد الطبيعية ما أثار الأطماع حولنا وحرّك الضغوط الأجنبية علينا؛ إلا أن قدرتنا على البناء الذاتي تظل قائمة، ولا يتصور أحد أن التقدم حكر على منطقة بذاتها، وقد نأتي إلى يوم نتحدث فيه عن (النمور) العربية ونفتح الأبواب أمام الأفكار الجديدة والمبادرات البنّاءة التي تعيد هيكلة الاقتصاد القومي وتتجه بنا نحو التخطيط العلمي المدروس والاستخدام الأفضل للموارد المتاحة مع السعي إلى تعظيم حجمها وتوظيف دورها في خدمة الاقتصاد الوطني الرسمي والموازي على حد سواء. إذ إن بلادنا تعاني من ضعف النظام الضريبي والاعتماد على الاقتصاد غير المنظور الذي لا يخضع للتسجيل ولا المحاسبة بحيث أصبحنا أمام اقتصاديات هلامية في بعض الدول العربية أحياناً.
ثالثاً: لقد طرح التقدم العلمي دراسات حديثة وآراء جديدة حول مشكلات الطاقة والمناخ والتربة والبيئة والمياه قبلها جميعاً ذلك لأن الأعداد البشرية في تزايد بينما الإمكانات ثابتة في كثير من الأحوال، وهو ما يدفعنا إلى إعادة النظر في الأساليب القديمة، سواء في الري أو توليد الكهرباء أو مواجهة آثار الاحتباس الحراري أو تأثير المخلفات على التربة، وذلك يقودنا إلى الاعتراف بأن الزراعة وهي مصدر الغذاء، تواجه حالياً أزمة ملحوظة على رغم تزايد غلة الهكتار الواحد من المحاصيل المختلفة بفعل الأسمدة والأساليب الحديثة في الزراعة، ولكن زيادة الطلب تبدو كالغول الذي يبتلع كل عوائد التنمية الزراعية، خصوصاً أن الرقعة الصالحة للإنتاج الزراعي وفقاً للمعايير الاقتصادية لا تزيد كثيراً، بل هي ثابتة في معظم الأحيان. وهو أمر يؤكد التحدي الذي نواجهه من خلال التعليم الجيد والبحث العلمي العصري للخروج مما نحن فيه من أزمات، ناهيك عن الكوارث التي تصيب البيئة في كثير من الحالات مثل السيول وحرائق الغابات ونقص الطاقة وتراجع منسوب الأنهار، فضلاً عن مشكلات التصحر والجفاف. فإذا كانت الإنسانية مهدّدة بأخطار بلا حدود، فإن العالم العربي يقع في قلب منطقة قد تتأثر بنحر البحر وتراجع مساحة اليابسة؛ مثلما هو الأمر بالنسبة إلى دلتا نهر النيل في مصر. فالتحديات كثيرة ولا بد من استلهام الحلول المناسبة من خلال الأفكار الجيدة والبحوث التطبيقية على الواقع في كل قطر عربي.
رابعاً: إن المشكلة السكانية هي الأخرى غول حقيقي يلتهم عوائد التنمية ومصادر الطاقة ويرفع استهلاك المياه ويزيد من درجة الاحتباس الحراري ويعبث بالتربة حتى يغير من ثوابت المناخ ذاته، فدولة مثل مصر تواجه مشكلة سكانية مستعصية، إذ قد يصل عدد سكانها إلى مئة وخمسين مليوناً خلال سنوات قليلة في ظل رقعة زراعية لا تتزايد بالمعدل نفسه، إلى جانب ندرة الموارد الطبيعية على رغم وفرة الموارد البشرية فأصبح عليها أن تبحث عن حلول غير تقليدية حتى تدرك رؤيتها الحقيقة للمستقبل بالأرقام الدقيقة والإحصاءات الصادقة. كما أن زحف سكان الريف إلى المدن قد أصبح يشكل هو الآخر ظاهرة مقلقة فرضت حزاماً من العشوائيات حول العواصم والمدن الكبرى وتلك بيئة حاضنة للتطرف والعنف بل وإلي الجريمة المنظمة أحياناً.
خامساً: لا شك في أن هناك من المعايير الأخرى التي يجب الاحتكام إليها في تحديد طبيعة المستقبل العربي ما يمكن التعبير عنه بأنه الانطباع العام عن حالة الأقليات العددية في المجتمعات العربية سواءً كانت تلك الأقليات العددية دينية أو عرقية؛ إلا أنه يتعين علينا أن نأخذ الأمر بمنظار مختلف، فنحن نعيش في عصر يتمتع بشفافية كاملة وقدرة هائلة على نقل الأخبار والمعلومات بالصوت والصورة، لذلك فإن حجب الحقائق أصبح مستحيلاً، كما أن الادعاء بغير الواقع أضحى هو الآخر عارياً ولم يعد أمامنا إلا أن نعمل مبدأ المواطنة في العلاقات بين الجماعات المختلفة من دون تمييز أو تهميش أو إقصاء. كما أن رؤيتنا للمستقبل ينبغي أن تقوم على أسس متينة من التعايش المشترك وحسن الجوار الإنساني والإحساس بأن وجودنا في هذه البقعة منذ قرون عدة يلهمنا بتأكيد معاني التسامح ويعطــينا الإحساس العــــميق بالتجانس البشري الذي عرفناه عبر عشرات القرون.
سادساً: إن العلاقات العربية مع القوى الكبرى هي الأخرى عامل حاكم في مستقبل المنطقة، ولقد تعلمنا من علاقات قديمة مع الاتحاد السوفياتي السابق ومع الولايات المتحدة الأميركية، وقبلهما بريطانيا وفرنسا وربما إيطاليا، أن الوجود الأجنبي لا يتجه بالدول نحو التحضر والحداثة ولكنه يسعى فقط إلى استغلال مواردها والاستفادة من مواقعها الاستراتيجية ويطوعها لخدمة أهدافه وغاياته ولا ينظر إلى الأماني الوطنية أو تطلعات الشعوب. ولقد عانت المنطقة العربية أكثر من غيرها من ويلات ذلك وعرفت عقوداً من القهر والطغيان ودفعت ضريبة الدم الغالية حتى أصبح عليها أن تتعامل بيقظة وحذر من خلال رؤية بعيدة وعلاقات متوازنة تقوم على الندية الكاملة والفهم المتبادل للمصالح مهما كانت قوة الطرف الآخر. وينسحب الأمر على العلاقات مع إيران ومع تركيا، باعتبارهما من دول الجوار ذات التاريخ الطويل مع المنطقة العربية ولكل منهما أجندته الخاصة في هذا الشأن، وهي قائمة على الجوار الجغرافي والتلاحم التاريخي بإيجابياته وسلبياته. وهو أمر يدعو العرب إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة مع دول الجوار بما في ذلك إسرائيل ذاتها فلكل زمان أساليبه ولكل عصر أفكاره ولكن تبقى المصالح العربية هي الهدف الأسمى في النهاية.
سابعاً: إن الصراع العربي- الإسرائيلي هو الملف الأول أمام المستقبل العربي مهما تراجع تأثيره أو تعود العرب عليه، لذلك فإن وضع العلاقة العربية- الإسرائيلية في إطارها الصحيح هو الحل الوحيد لتحسين ميزان القوى وإيجاد مخرج للقضية الفلسطينية التي يسعى الجميع لإدارتها ولكن ليس هناك من يسعى جدياً لحلها، فهي بحق قضية الفرص الضائعة من الجانبين وهي أيضاً مشكلة المشكلات وقضية القضايا.
هذه محاور سبعة أردنا بها أن نقول إن المستقبل ليس بعيداً وإننا نكاد نمسك الغد بأيدينا، فلنتحرك في جسارة وذكاء ورؤية واضحة ونظرة متكاملة من أجل فك طلاسم المستقبل وإيجاد الشيفرة الصحيحة التي نقرأ بها (كتالوغ) الزمن المقبل.
عن الحياه اللندنيه