عمار علي حسن
أنا مع تطبيق الشريعة كما جاءت فى القرآن الكريم وكل ما لا يخالفه مما نُسب إلى الرسول الكريم من أقوال، وكل ما تواتر عنه من أفعال، لكننى ضد «شريعة الخلق» التى يطرحها أغلب من احتشدوا فى ميدان التحرير وزعموا أنها «شريعة الخالق» فمنحوا أقوال وتخريجات البشر قداسة وقدموها، دون أن يدروا، على وحى السماء، واستعاروا ما أنتجه الأوائل عبر إعمال العقل فى مشكلات واقعهم على أنه «نقل»، شأنه شأن التنزيل. وبالطبع هم سينكرون ذلك من الناحية النظرية، ويقولون: حاشا لله. لكن من الناحية العملية لو قمت بدراسة خطابهم وخطبهم وفتاواهم وتخريجاتهم وآرائهم ستجد أنها كذلك بوضوح وجلاء.
الشريعة كما أفهمها لم تغب يوما عن الشعب المصرى، فهى مطبقة كاملة، ومتجسدة فى «قانون الأحوال الشخصية»، حيث أحكام الزواج والميراث.. إلخ، أما بالنسبة لـ«الحدود» فهناك «التعزير» الذى استبدل السجن بقطع يد السارق، وجلد الزانى وشارب الخمر، وهذا من حق «الحاكم»، كما اتفق الفقهاء الأوائل، حتى لو لم نرد التعزير هذا، فإن الشروط الصارمة والقاسية التى وضعت فى سبيل تطبيق الحد تكاد أن تقول لنا بوضوح: إن الحدود للردع. والقانون المصرى الحالى لا يكافئ السارق، ولا يحتفى بالسكير، ولا يبارك فعل الزانى، إنما يعاقبه. علاوة على أن الشريعة «حقوق» قبل أن تكون «حدودا» لكن المتعجلين والجهلاء وتجار الدين يتلاعبون بعقول بسطاء الناس، ويصورون لهم الأمر على أن الدين فى خطر، وأنهم هم حراسه الأوفياء، وأن الأمر يتطلب نصا فى الدستور على «الأحكام» وليس «المبادئ»، وينسون أن الشرع يُبنى فى النفوس قبل النصوص، وفى الواقع المعيش وليس فى بطون الكتب التى يسترزقون منها.
إن كل المصريين المسلمين يمتثلون للشريعة عن طيب خاطر، من دون تشدق ولا مظاهر كاذبة وفارغة، ودون أن يجلسوا طول الوقت ليتحدثوا عن اعتزازهم بالشرع لأنه ذائب فى نفوسهم وقلوبهم. لكن المشكلة فيمن يثرثرون ليل نهار ويذرفون دموع التماسيح على «الشريعة الغائبة» و«المجتمع الجاهلى» و«الدولة المارقة» التى يجب أن يفتحوها من جديد، ليحطموا أصنامها وينشروا فيها الإسلام الذى يحملون توكيله، ويعرفون، وحدهم، أركانه، ويحملون بمفردهم مفاتيح الجنة التى وعد بها الله المؤمنين. إن هؤلاء يذكروننى بالحكمة التى تقول: «احذر المرأة التى تتحدث كثيرا عن الشرف»، والآن أقول: «احذروا الذين يتحدثون عن تدينهم ويتباهون به»؛ فالمتدين الحقيقى يذوب الدين فى سلوكه، ويلمسه الناس، ولا يكون فى حاجة إلى الإعلان عنه.
يعلم كبار هؤلاء أنهم يكذبون، لكن يريدون أن يحصدوا أى مكاسب سياسية باسم الشرع، حتى لو على حساب الأخلاق التى بُعث الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليتممها، أو على حساب حق الناس فى أن يكتفوا من الغذاء والكساء والدواء والإيواء والتعليم والترفيه وهو جوهر الشريعة وعينها، لكن هذا يتطلب أفعالا لا أقوالا، وهم مفلسون ليس لديهم سوى الكلام الفارغ، والبحث عن المناصب والكراسى والمغانم باسم الدين.
يقرأ هؤلاء القرآن الكريم، ويفهمون أنه «الأصل» وأنه «الوحى» وأنه «النص المؤسس» للإسلام، ويعلمون أنه كتاب هداية فى المقام الأول وأن التشريعات التى وردت فيه لا تزيد عن 200 آية من بين 6236 آية تمثل «المصحف الشريف» كله، ويتلون «اليوم أكملت لكم دينكم» لكن يتناسونها ويكملون هم الدين زعما من عند أنفسهم، ويوهمون عوام الناس أن الدين مهجور، ويهملون قول أحد ممن يحيلون إليه دون فهم ولا وعى وهو ابن القيم الجوزية من أن الشريعة عدل كلها وقسط كلها ورحمة كلها، وأن أى شىء خرج من العدل إلى الظلم، ومن القسط إلى الجور، ومن الرحمة إلى القسوة، فهو ليس من الشرع وإن أدخل فيه بالتأويل. وصدق رب العزة حين قال فى محكم آياته على من استبدلوا بكلامه كلام البشر، وغالوا فى الدين وأوغلوا بغير رفق: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
نقلاً عن جريدة "الوطن"