عمار علي حسن
المستطيل الأخضر الذى يقذف من جوفه صهدا ودخانا أصبح فجأة طعاما لعجلات باردة قاسية لقطار يجرى على عجل نحو محطته الأخيرة، ولا وقت لديه للمضغ والبلع والهضم، ففى ثوان معدودات ترك لنا فضلاته على القضبان الراقدة فوق الإهمال والبطش، وهى لم تكن سوى قطع لحم طرى، معجونة بدم تدفق من شرايين كل المصريين، وبدمع سكبته عيونهم بين صباح غير مشرق ومساء معتم، ونادى كثيرون: أين كرامات الرئيس؟
قبل هذه النداءات، كانت هنا أروى. كانت نور وريم وهبة. كان مصطفى ومحمود، وكانت يد السماء مبسوطة كعادتها بالرحمات والنسمات، لكن يد الذين رفعهم الناس على الأعناق ليقيموا العدل فتجبروا، كانت مقبوضة على ما اقتنصوه فى سرعة كعصابة محترفة، وهم يظنون ويتوهمون أن كل شىء قد دان لهم، وصار طوع بنانهم، وأنهم الوارثون والممكنون، ورسل العناية الإلهية، الذين ليس بينهم وبين الله حجاب، وأن كل شىء سيجرى فى يسر، لا تعب ولا أخذ بالأسباب، ولا ترتيب أو تدبير وتخطيط، لأن كراماتهم ستحل على الرءوس بالزاد والطمأنينة، وتسبيحاتهم ستحجب الشر الداهم المستطير، ودعواتهم ستغير ما تجرى به المقادير.
ألم يزر الرئيس أسيوط ويدعو لشعبها من جوف المسجد، فلم الخوف إذن؟ وكيف لم يطن دعاء الرئيس فى أذن عامل «التحويلة» فيستيقظ ولو فجأة ليوقف الدهس والدم والفجيعة والعار؟ وكيف لم يصل الدعاء إلى مسامع سائق القطار فينعق على المحطة لا يغادرها حتى يمر الميامين بسلام إلى فصولهم المكسوة بلحمهم وحلمهم؟ وكيف لم ترن وتكسر الصمت الرهيب المميت الذى كان يخيم على سائق الباص فلا يمر إلى المقبرة؟
سيقول العقلاء الذين يحسبون كل شىء على الآلات الرقمية: ما علاقة الرئيس بهذا؟ وأقول لهم: صحيح، لكن هذا ليس كلامنا إنما كلام تجار الدين الذين قالوا للناس: لو انتخبتمونا سيفتح الله عليكم بركات من السماء. وكنا نحن نردد أيامها قول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ الله يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً»، وكنا دوما نذكرهم بقول الرسول الكريم: «لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم»، إلا أنهم أشاحوا لنا بأيديهم وقالوا: «نحن جماعة الله المختارة»، أيدينا فوق أياديكم، وبناتنا أرقى من بناتكم، وصدّقهم البسطاء.
إنه الكلام الراقد فى سطور يقرأونها ليل نهار فى منهجهم التعليمى الداخلى وفى أناشيدهم ومدائحهم التى يصدحون بها فى معسكراتهم وشُعَبهم. إنها اللغة والطريقة التى جعلت المخالفين يقابلونها بالاستهجان والسخرية وأحيانا بالمزايدة أوالمبالغة، ولكل فعل رد فعل مساو له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه. ولذا راح الناس يتداولون على شبكات التواصل الاجتماعى ما يلى:
1- زار مرسى السعودية فسقطت لأول مرة طائرة من النقل الجوى الداخلى بالمملكة.
2- صافح بطريرك الأقباط فى إثيوبيا فمات بعد عشر ساعات، وبعدها بأسابيع مات رئيس الوزراء ميليس زيناوى.
3- قابل هيلارى كلينتون فتوفيت والدتها.
4- زار مطروح فاحترق بعد يوم سوق ليبيا.
5- زار أسيوط فوقع حادث القطار، ومات 51 طفلا.
هذه ردود غاضبة لشيطنة الرئيس، وتصويره على نحو معين، لكنها أقوال نابعة من فعل مضاد لمن أرادوا أن يصوروه وكأنه اختيار العناية الإلهية، وقد أخذت هذه الأقوال دفعة قوية بعد حادث أسيوط المؤلم، إلى درجة أن أحدهم اختلق خبرا على «الفيس» يقول: محافظ سوهاج يناشد الرئيس ويرجوه ويتوسل إليه ألا يزور المحافظة أبدا.
نقلاً عن جريدة "الوطن"