عمار علي حسن
السقوط الأخلاقى يسبق السقوط السياسى، هكذا قالت كل تجارب الحياة وسننها، لكنها لا تعمى الأبصار إنما القلوب التى فى الصدور.
أتخيل لو عاد الشيخ حسن البنا إلى الحياة سينظر فى عين من يتربعون فى غرور وزهو اليوم على عرش الجماعة التى كافح ومات فى سبيل تأسيسها، ثم يقول لهم:
- ضيعتمونى.
ثم يغادرهم وبعضهم يعيد جملته القديمة التى أطلقها فى وجه التنظيم الخاص الدموى الذى انحرف بالدعوة عن مسارها الصحيح:
- «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين».
فى ظل انشغال الإخوان بالإجابة عن سؤالهم الملح والقاطع والغارق فى الأنانية والانتهازية: متى نهيمن على كل مفاصل الدولة؟ ينشغل كثيرون بالرد على سؤال أشد وقعا ووطأة مفاده: هل يخرج الإخوان من التاريخ؟ ليولوا وجوههم شطر معطيات حقيقة على الأرض تقول بلا مواربة إن «الجماعة» على محك تاريخى، وإن استمرار تماسكها وتواصل نفوذها وحضورها السياسى والاجتماعى الطاغى والمتحكم لم يعد قضية موضع تسليم، وإن الآتى غير الآنى وما ذهب.
ذات جمعة من جمع الثورة وقف سلفيون فى ميدان التحرير ليهتفوا ضد الإخوان ويتهموهم بجنى مكاسب على حساب الثوار، واستخدام دماء الشهداء والمصابين أوراقا للتفاوض مع العسكر. واليوم بعضهم يصطفون معهم ضد فزاعة يستخدمها الإخوان لاصطيادهم مؤقتا وهى «العلمانيون» فإن أوصلوهم إلى مرادهم سيتخلصون منهم فى أول طريق. فتاريخ الإخوان يقول بصراحة إنهم يبدأون عقب تمكنهم مباشرة بأكل حلفائهم، وهذا ما يعلمه رجل مثل الشيخ ياسر برهامى، حسب ما تنم عن ذلك كثير من تصريحاته وأحاديثه.
وحالة التململ وعدم الاقتناع بوضع شباب الجماعة فى وجه الناس تزداد رغم التعليمات والبيانات التى تصدر إلى «الصف الإخوانى»، والهوة مع أنصار أبوالفتوح تتسع، والحيرة التى تسكن نفوس شباب الجماعة يستعر أوارها، والشكوك أخذت تساور بعض القيادات فى أن رحلتهم الطويلة قد بلغت «التمكن المريح» بعد عقود عجاف من «التمسكن»، مثلما اعتقدوا بُعيَد الانتخابات البرلمانية والرئاسية. فمشروعهم بدا للناس مفلسا، وقدرتهم على مواجهة مشكلات الواقع ضعيفة، وخبرتهم فى إدارة الدولة ضئيلة، وخصومهم فى ازدياد، واليوم ليس أمامهم من سبيل سوى «التغلب»، وهذه بداية الخسران المبين.
إنه الغرور الذى يدفع أصحابه الثمن فى النهاية، فتصوب السهام إلى أجسادهم من كل صوب، ويذهبون غير مأسوف عليهم، بعد أن كان مؤسس الجماعة يراهن على أن حب الناس لهم هو الذى سيدفعهم إلى القيادة، وأن جميعهم سيقبلون يد المرشد أو يبجلونه، بدلا من أن يتهكمون عليه وعلى كل من حوله.
قبل الثورة كان الإخوانى يتحدث معك بفخر عن انتمائه السياسى مدركا أنك تراه مناضلا أو ضحية أو مشروع شهيد. اليوم يأتيك الشباب فى التحرير أو يعلقون على ما تكتب بصفحات التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت بادئين كلامهم: «أنا لست إخوانيا ولكن.. ».. وإذا اعترف أحدهم لك بانتمائه للجماعة يقر معك بسهولة أن القيادات تخطئ وأن المخاوف تزداد حيال المستقبل المنظور والبعيد، ولا يثق أى منهم فى أن الشومة التى يمسكها فى يده حتى يمنع الغاضبين من حرق مقرات الجماعة يمكن أن يحملها إلى الأبد، لاسيما بعد أن اختارت القيادة المتغطرسة طريق المواجهة.
لقد أخطأ رموز «النظام الخاص» وأتباع التفكير «القطبى» ممن يمسكون برقبة الإخوان حاليا فى تقدير الموقف، فتوهموا أن المصريين صوتوا لـ«مشروع الجماعة» وأن لحظة تحصيل الحكم نهائيا وأبدا قد جاءت، وأن العسكر الذين لا خبرة سياسية لهم، والقوى المدنية المبعثرة المتناحرة، لم يستطع أيهما أن يوقف تقدم «الجماعة»، فجاهروا فى الداخل بالاستغناء والاستعلاء وأرسلوا إلى الخارج وفودا لطمأنة العالم حيال نظام حكمهم الذى بات على الأبواب، وقدموا التنازلات على حساب مصلحة مصر مثلما جرى فى «هدنة غزة». ولم يكن شىء من هذا صحيحا، فالمدنيون فاعلون رغم تشرذمهم، والعسكر لم يخرجوا تماما من الساحة بل احتفظوا بكل شىء، وكل ما جرى لهم هو أنهم عادوا إلى موقعهم فى 24 يناير 2011 مع استبدال مرسى بمبارك، وجاء على رأسهم رجال ليسوا فارغى الرأس، يداهنهم الرئيس ويطمئنهم على حالهم ومالهم، وشبكات النظام القديم لم تتفكك، لأن الإخوان المتعجلين على خطف الثورة والسلطة منحتهم من حيث لا يدرون قبلة الحياة، بل تحالفت معهم مثلما نرى كذلك فى وزارة هشام قنديل التى تزخر بثمانية من أعضاء أمانة سياسات جمال مبارك.
إن الجماعات والتنظيمات الدينية، لاسيما التى تنخرط فى غمار السياسة، تولد وتشب عن الطوق وتحوز شبابا ناضرا ثم لا تلبث أن تهرم وتبيد، أو تنزوى بعد حضور طاغ. فهذه من السنن الاجتماعية الراسخة، وإلا ما وجد الدكتور عبدالمنعم الحفنى ما يملأ به مجلدا ضخما عن «الفرق الإسلامية»، التى طاول بعضها السحاب وملأ الأسماع والأبصار ثم صار أثرا بعد عين، وحكاية تروى وذكريات يتم استدعاؤها للاعتبار أو التندر.
نقلاً عن جريدة "الوطن"