الرئيس الذى فتح صدره فى ميدان التحرير، ناهراً جنده الذين شبكوا أياديهم ليعصموه من الناس، ها هو يهرب من قصره بعد أن وصلت الحشود إلى أبوابه بعد أيام فقط من هروبه من مسجد الشربتلى وسط هتاف «يسقط حكم المرشد». وها هو يمشى بين أرتال من العربات المصفحة والجنود المدججين بالسلاح والقناصة والرماة المستيقظة عيونهم ليردوا قتيلاً كل من يقترب منه ويظنون أنه يقصده بسوء. وها هو يصلى، وعيناه مفتوحتان، أمام صفوف من الحرس والعسس، وعلى جانبيه رجال غلاظ شداد لا يعصون له أمراً ويفعلون ما يؤمرون، ويخطب عقب الصلاة فى جمع من الناس فتشوهم على باب المسجد تفتيشاً يثير الضجر والاشمئزاز، ليقول لهم كلاماً مرسلاً مكروراً وعابراً عن العدل والطمأنينة، وأنهار العسل واللبن التى تنتظرهم فى عهده المجيد، لكن عليهم أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا على الصمت.
الرئيس الذى قال إنه لن يفصله عن الناس حجاب ها هو يختفى عن أعينهم خلف جدران عالية مصمتة، ويطأ بقدميه أوراق مظالمهم التى كدسوها على باب ديوانه وهو ذاهب إلى كرسيه ينهب الأرض نهباً، وها هو يرسل من غضبوا عليه ليحاكموا أمام القضاء وعلى أعناقهم تهمة إهانته، بعد أن هددوه فى تطاول عجيب بأنه لن يكون آمناً إن ذهب ليسير خلف شباب سال دمه فشربه الرمل والصخر وتطلخت به أيدى القتلة المجرمين قبيل إفطار رمضان، فلعنهم اللاعنون، وآمن الكل أن الدودة فى أصل الشجرة.
الرئيس يصل إلى سمعه صراخ الذاهبين إلى المشنقة وهم يجاهرون بتكفيره من خلف القضبان التى لا قلب لها. ويقرأ قبل هذا بأيام بياناً أصدره إخوانهم الذين أعلنوا أنفسهم «مجاهدين» رغم أنف الحق والحقيقة، يقول له: أنت لا تحكم بشرع الله، ويقرأ بعدها بساعات تقارير أمنية دقيقة تخبره بلا مواربة: أنت مستهدف ولا جدال. لكنه لا يجلس فى بيته. يذهب إلى المساجد بين آلاف من العسكر عن كل صنف ونوع، ويقف تائهاً أمام وجه شاحب لعجوز تتوكأ على الزمن لتقول له على باب جامع السيدة زينب فى قلب القاهرة: اقعد فى قصرك حتى لا تتعب الناس. ومن حق فإنه بعدها صلى إلى جانب بيته فى «التجمع الخامس»، حيث قليل من كلفة الأمن، وقليل من الوقت، وقليل من الكراهية.
الرئيس الذى شمخ بأنفه فى الميدان الفسيح الذى لم يدخله قبل يوم القسم الجمهورى، يعرف الآن أيضاً أن مستهدفيه قد لا يكونون فقط بعض من جلسوا القرفصاء فى الردهة المظلمة من التاريخ بل أيضاً أولئك الساعين بكل قوة كى يدخلوا تاريخ أيامنا تلك أو الآتية من أوسع أبوابه التى يغمرها نور مبهر، ودفعوا فى سبيل هذا دماء زكية، ونزلوا إلى الميادين سائرين خلف أو مع من لعنوا نظاماً بليداً غبياً، أسقطوا رأسه، وأنهكوا جوانحه، وأقسموا أنهم لن يسمحوا لأحد، أياً كان، أن يستهتر بهم أو يسخر منهم أو يتجبر عليهم بعد اليوم أبداً، وأن أرواحهم ستبذل رخيصة دون ذلك، وهى الرسالة التى لن يعيها إلا كل ذى قلب بصير وعقل فهيم.
الرئيس الذى قبض صدره المنبسط فى ميدان كان يعج بأتباعه فى لحظة لم تخطر بباله ثم مضى، لم يعد أبداً ليفك أزرار قميصه للريح ويمشى بين الناس هرولة أو هوينا، ولم يعد يلوح للناس الذين كانوا يرمقونه ويقفون لتحيته وهو عائد من قصر عابر فى حياته إلى بيت عامر بكفاحه وذكرياته، ولم تعد سيارته الفخيمة تنحشر بين بضع سيارات رخيصة وعربة كارو مثلما ظهرت عقب توليه مباشرة، ليبقى المشهد يتيماً، رغم أن الأيتام أولى بالرعاية والحماية والحدب والتعاطف، ولهم يوم طالما استغلته جماعة الرئيس فى حشد وحشر الأصوات فى الانتخابات.
الرئيس يعرف أن الحذر لا يمنع من قدر، وأن المنية تأتى أى أحد مهما علا وارتفع ولو كان فى بروج مشيدة، هكذا يقرأ دوماً فى كتاب الله الحكيم وفى آراء الفقهاء الذين ألف الجلوس إلى أوراقهم الزاخرة بسطور جلية وصاحبهم طويلاً من دون كلل وتعلم منهم كيف يفخم وينغم الحروف وصنع الرطانة أثناء الخطابة. لكن أحداً لن يزايد على الرئيس، ويقول له: لا تأخذ بتقارير رجالك المقربين التى استجمعوها وجمعوها من كل حدب وصوب والتى يمكن أن تقول لك إن قاصديك أيضاً من خارج البلاد، وإن أعداءك يتزايدون فارفع من حذرك، واترك نفسك لمن يخافون عليك يحمونك ممن قد تخاف منهم.
الرئيس يخاف، أو يتم تخويفه، لا فرق لدى الشعب. يخاف لأنه إنسان أو لأنه موظف كبير جداً أو المسئول الأول فى بلدنا ولأن بقاءه محمياً مصوناً ضرورة، لا فرق لدى الناس. فالمهم أنه لم يعُد بوسعه أن يقف تحت أى منبر ويقول ما كان يصرخ به فى وجه كل من جلسوا قبله على كرسيه: «حكمت فعدلت فسلمت فأمنت فنمت يا عمر». والمهم أن الفاهمين فى هذا البلد سيقولون للشعب: لا تخف أبداً من الحاكم فهو الذى يخاف منك، ومن لا يعى فليسأل من جاءوا قبله.
نقلاً عن جريدة "الوطن"