عمار علي حسن
خاض المصريون غمار «الاستفتاء» على «مشروع الدستور» منقسمين على أنفسهم بطريقة حادة لم يألفوها طيلة تاريخهم المديد، بما يضع بلدهم العريق المتماسك على باب «الاحتراب الأهلى» مع غياب رجال الدولة القادرين على إدارة الأزمة باقتدار ونجاعة، ومع بروز التناقض الجارح بين أولويات المجتمع فى اللحظة الراهنة وبين المشروع الذى تحمله جماعة الإخوان على أكتافها منذ ثمانين سنة، وتعتبر أن الوقت قد حان لتنتقل به «الصبر» إلى «التمكين».
ورغم أن الدعاية السياسية دفعت الإخوان إلى تسويق الاستقرار فى ركاب الموافقة على تمرير مشروع الدستور، فإن الواقع لا يشى بهذا على الإطلاق، بل يؤسس للنقيض. فالدستور لم يخرج إلى الحياة من باب التوافق، بما يجعله قاعدة صلبة لتنظيم المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والدينية فى المجتمع المصرى، ووضع معايير واضحة المعالم للتنافس الحزبى والتداول السلمى للسلطة، ويضمن حقوق الناس ويصون حرياتهم الشخصية، ويرتب المعاش على سنن العدل والاستقامة. بل على النقيض من هذا ولد الدستور فى أتون الاحتقان والتباغض والتلاسن والإحن السياسية العميقة والقاسية.
ويوجد كثير مما يزيد من هوة الثقة بين المعارضة والسلطة، وهى معضلة تحول دون استعادة الهدوء والاستقرار، الذى سوق الإخوان مشروع الدستور على أساسه. ومن ثم يبقى أى حديث عن «حوار وطنى» بعد تمرير الدستور أمرا غير ذى جدوى لاسيما، فى نظر المعارضين، ما لم يتم تحديد جدول أعمال هذا الحوار وأهدافه وأطرافه، وتكون النية صافية خالصة إلى أن نتائجه ستأخذ طريقها إلى التطبيق. وقد يكون مثل هذا الإجراء فرصة سانحة أمام السلطة لترميم الشروخ فى الدستور الجديد، والتصالح مع النصف الآخر تقريبا الذى رفضه، وهى مسألة لا تمس صلاحية الدستور للعيش والاستمرار فحسب بل تمس أيضاً شرعية نظام الحكم.
فالدستور الذى قُصد من تمريره تعزيز تلك الشرعية، هاهو يضيف عليها أعباء جديدة، لاسيما مع اتهام المعارضة للسلطة بالتلاعب فى كل الجوانب الإجرائية لعملية الاستفتاء. وهى مسألة إن نفاها من فى الحكم، بالطبع، فليس بوسعهم أن ينكروا تراجع شعبيتهم من واقع القراءة الفاحصة والدقيقة لنتائج الانتخابات والاستفتاءات. ففى الاستفتاء الأول على التعديلات الدستورية التى وضعتها لجنة شكلها المجلس العسكرى، حاز «التيار الإسلامى» على تأييد 77.2% لموقفه الداعى إلى التصويت بنعم، وهاهى تتراجع الآن بشكل واضح لتزيد قليلا عن النصف، مع افتراض «نزاهة» الاستفتاء، أما إن اعتمدنا رواية المعارضة فسيكون الرافضون لموقف الإخوان والسلفيين والجماعة الإسلامية من مشروع الدستور أكبر من الموافقين لهم أو الراضين عن مسلكهم. وبينما حصل هذا التيار على أكثر من خمسة عشر مليون صوت فى انتخابات مجلس الشعب الفائتة، تدنى الرقم إلى نحو الثلث فى انتخابات مجلس الشورى، وهو الرقم الذى حازه الدكتور محمد مرسى فى الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة.
ومثل هذا الوضع يجعل الشرعية على المحك، لاسيما فى ظل تواصل المظاهرات فى الشارع التى تطالب بـ«إسقاط النظام» وتقول للرئيس «ارحل» وهى مسألة إن لم يكن عليها إجماع داخل صفوف المعارضة، فهناك من يرى خطر الإطاحة برئيس منتخب ولا يريد منه سوى أن يُرَشّد قراره ويتوخى العدل ويتصرف كرئيس لكل المصريين. لكن هذا الصوت الحريص على عدم هدم الشرعية خوفا من الفوضى أو الانقلاب العسكرى يضيع وسط هدير غاضب يهتف بسقوط الشرعية سواء بفعل الدم المسفوك أو الانفراد التام بالحكم أو التفريط فى مصلحة الشعب.
وكان من المفترض أن يكون هذا الدستور فرصة سانحة لاستعادة اللُحمة الوطنية، حال التوافق عليه شكلا ومضمونا، لكن من أسف لم يتم هذا، وها هو يتحول من مزية إلى عيب ومن مدماك قوى صلب للعمل الوطنى إلى أكوام من حجر قد يمد الفرقاء أيديهم إليها ويقذفون بعضهم البعض، وتسيل دماء من جديد.
نقلاً عن جريدة "الوطن"