عمار علي حسن
عاد المهندس خيرت الشاطر من لجنة الاستفتاء حزيناً، يتردد فى أذنيه صدى الصراخ الذى أطلقته نسوة غاضبات فى وجهه: «يا قاتل»، لم يحفل بغير ذلك من الألفاظ النابية التى اقتحمته ونزلت على رأسه كالصاعقة، فحولت خيلاءه إلى انكسار، وخطواته الواثقة الثابتة إلى هرولة نحو أى باب للخرج أو الهروب.
هز رأسه كثيرا، وغرق فى تفكير عميق، وراح سؤال اللحظة يوخزه: أهذا ما كنا نريد؟ كيف ظن من أطلقنا على وجه الأرض أن السيادة رهينة المحبة وليس رديفة للعنة والنبذ؟ وأخذ يستعيد خطواته التى قطعها فوق دروب الجمر والشوك نحو ما يجده بين يديه الآن، بينما هو جالس يجيل بصره فيمن حوله ويعبث قليلا فى لحيته، ثم يزم شفتيه ويصدر القرار، فيردون عليه من دمياط إلى حلايب: «سمعا وطاعة». حتى من وضعه فى صدارة المشهد أمام كل العيون، لا يعصى له أمراً.
لكن كل هذا لا يهم، فسرعان ما نفض عن نفسه هذه المشاعر التى تليق بداعية وليس رجل سياسة عملى، يعرف من أين تؤكل الكتف، وراح يتابع نتيجة المرحلة الأولى من الاستفتاء، ثم أخذ يضرب كفا بكف، يضاهى ما يعلم أنه قد حدث بعد أن خطط ودبر بالأرقام التى تتوالى ويقول: «نحن نتداعى، أقدامنا تقف الآن على شفا بحر الرمال العظيم، أو ناصية جبل أشم تضربه عاصفة هوجاء فتضربنا»، يمد يده إلى درج مكتبه ويخرج الورقة التى سجل فيها خلاصة التوقعات التى انتهى إليها مكتب الإرشاد وينظر إليها ملياً، ثم ينفخ فى غيظ، وينصت إلى هاتف يناديه من أعماقه: إنه كان الصعود إلى الهاوية، أو القفز فى الفراغ.
لا يستطيع الشاطر، وهو مولع بالحسابات بداية من أرقام تشكل حبات مسبحة تاجر ونهاية بالجدل الاجتماعى والتاريخى الذى استقاه من تجربته اليسارية القديمة، أن يخدع نفسه، يفهم أنه من الممكن أن يقول للناس أى شىء، ويعرف كيف سيطلب من الأبواق التى ستطلق ليلا وتجول على الفضائيات، قد تقف عند رقم معزول بسيط، وتقول: لو الاستفتاء على مرسى فشعبيته تعززت، لكن ماذا يقول لنفسه؟ وهذا هو الأهم، وهو يعرف تماما أن مرسى بشخصه وإمكانياته الذاتية ما كان يمكن أن يحصل إلا على عشرات الآلاف من الأصوات، وربما أقل.
شهق وزفر بعمق، ثم أمسك بالقلم الرصاص، وراح يكتب: «شاركنا بكل طاقتنا، وصوت أتباعنا من دون غياب، وحزنا 17% تقريبا ممن لهم حق التصويت. كان الحاضرون 31% من جملة ما يزيد على 25 مليون ناخب فى المرحلة الأولى، وهذا معناه أن الـ69% المتبقية، التى قاطعت أو تلكأت أو لم تبالِ بما يجرى، علينا وليست لنا، أو على الأقل نحن فشلنا فى جذبها إلينا وإقناعها، فهل هى احتياطى استراتيجى لخصومنا؟ وماذا بوسعنا أن نفعل لو أدركوا هم هذا وبدأوا خطة تعبئة محكمة لدفع هذه الكتلة البشرية الضخمة للتصويت لهم فى الانتخابات البرلمانية المقبلة؟»، لكن يستدرك: «بوسعنا أن نهندس قانون الانتخابات على مقاسنا، ويفرخ مجلس الشورى فى أيام كل التشريعات التى أعددناها فنمسك برقبة الدولة، لكن هل هذه هى الشرعية الأخلاقية التى سوقناها للناس طويلا أم السقوط؟ وحتى لو مر الدستور عنوة فهل بوسعنا أن ندير بلداً لم نتوقع أن يقع فى أيدينا هكذا سريعا؟ وهل نملك مشروعا لنهضته فعلا أم إنه (الفنكوش) كما قالوا عنه؟ من أين لنا أن نوفر الغذاء والدواء والكساء والإيواء والتعليم والترفيه للجميع ونحن لم نتعلم شيئا طيلة حياتنا سوى العمل للجماعة؟».
وتزاحمت فى رأسه الأسئلة والظنون، ومد يده والتقط هاتفه المحمول وراح يوبخ كل من دونه: «تتراخون فيتسرب كل شىء من بين أيدينا»، لكنهم يردون عليه بصوت خفيض: بذلنا كل ما فى وسعنا. وينتفض غاضبا ثم يهدأ ويسأل نفسه: «هل توهمنا أننا قد وصلنا إلى التمكين؟ وهل يمكن أن ينفعنا استبدال المحبة بالغصب والخطف والتلاعب؟»، وفجأة تحل برأسه جملة سمعها قبل أيام من رجل عابر، لا يعرف اسمه ولا عنوانه، كان يقولها على إحدى الشاشات موجها كلامه إلى جماعة الإخوان: مصر كبيرة عليكم.
وتلوح فى الأفق ظلال النهايات التعيسة حتى ولو لم تكن دانية..
نقلاً عن جريدة "الوطن"