يحب الدكتور مرسى جماعتين ويهجر الثالثة. الأولى هى زوجته التى قال عنها أثناء الحملة الانتخابية: «أحمد الله أننى تزوجت الفتاة التى علق بها قلبى»، والثانية هى «جماعة الإخوان» التى يربطه بها ميثاق غليظ من الأفكار والتصورات والمصالح والمنافع والوقائع الموزعة على أفاريز الأيام، أما الثالثة التى يعطيها ظهره إلى الآن فهى «الجماعة الوطنية» بمختلف أطيافها واتجاهاتها، رغم أنها الأعرق والأكبر والأدوم، والأولى بالرعاية، لو صح الفهم والوعى والمقصد والعزم.
لا مجال للحديث عن الحبيبة الأولى؛ فهذا أمر خاص يمارسه «مرسى» بوصفه إنساناً دق قلبه ذات يوم فهرول خلفه مدفوعاً بطاقة لا سبيل له عليها. والحديث عن الحبيبة الثانية لا يخلو من شجون وشئون وحواشٍ ومتون، ربما شغلته عمّن وعمّا سواها. إنها الهيئة التى صنعته، ومن دونها كان سيصبح مجرد أستاذ عادى جداً يُدرِّس مادة «الفلزات» فى جامعة إقليمية، يخط على «السبورة» حالكة السواد بالطباشير الأبيض، ويوزع الكلمات والمعادلات على الرؤوس المثقلة بمواد دراسية أهم بكثير، ثم يذهب آخر الشهر إلى الخزينة، يبتسم فى هدوء لموظفها، ويتقاضى راتبه، ثم يمضى صامتاً.
«مرسى» يدرك أهمية الحب الثانى فى حياته؛ فلولاه ما جلس على «الكرسى الكبير»؛ لأن قدراته الذاتية البحتة ربما لم تكن تؤهله ليفكر أصلاً فى التقدم للترشح للرئاسة، وحتى لو غامر فإن نصيبه كان سيكون بين الثلاثة الأواخر فى قائمة الراسبين الطويلة، وحصاده بضع عشرات من الآلاف يحصيها من الصناديق المبعثرة على جسد الوطن من أقصاه إلى أدناه، ثم يتحول بعدها إلى معلق على الأحداث فى الفضائيات، أو ينزوى فى ركن قصى يروض الوقت، ويغالب النسيان، موصوماً بالندم والفجيعة.
الحبيبة الثانية أنفقت على عاشقها ثلاثة أرباع المليار من الجنيهات، وثمانين سنة من التنظيم والتدبير، وجهد الوسطاء من الترتيب والتجهيز تحت لافتة «عرس الديمقراطية» وجنّدت لها كل شيوخ البلد تقريباً، ليلعبوا دور «المأذون» دون تردد. ومع أن الملايين التى حضرت الحفل كانت تظن أنها تزف «مرسى» إلى الجماعة الثالثة، لكنه راوغ وهرب بعد «عقد القران» وهرول لـ«يحضن» الثانية بشدة، فى شوق ووله وتتيم وغرام مقيم.
الجماعة المهجورة تلملم بعض جراحها، وتتحدث عن «الخديعة» وتقص شعرها فى «ميدان التحرير»، وتضرب خيمة أمام قصر الاتحادية، وتصرخ فى وجهه وهو مدسوس فى سيارته الفارهة بين حراسه: «ارحل»، وتأتى صرختها زاعقة على قدر الأمانى والآمال التى علقتها عليه فى الأيام الخوالى.
لا يدرك «مرسى» الذى يؤمن أن الشرع يحلل له «أربعة» أن الثالثة التى نبذها وأعطاها ظهره هى «أم الأولاد» الحقيقية، وليست تلك السيدة التى يطلب منها فى هزيع الليل أن تمنع أبناءها من أن يكتبوا على «مواقع التواصل الاجتماعى» ما يُخجل الأب ويسبب له حرجاً بالغاً، ويرسل معها الحراس حين تنوى القيام ببعض الواجبات الاجتماعية حيال «الأهل والعشيرة».
تؤمن الثالثة أن الذين سيأتون لنصرتها ذات يوم أضعاف أضعاف عدد شعر رأسها الذى قصته غبناً وغضباً واحتجاجاً، وأن صرخاتهم هى حاصل ضرب صرختها المدوية فى عدة ملايين، وتدرك جيداً أنها «الأصل» وأنها هى التى تعطى القيمة والقامة لمن يقترب منها ويعشقها ويعطيها من فكره وجهده وولائه.
فى اللحظة المناسبة، ولو بعد حين، قد ينهش المرض الحبيبة الثانية، فتقف على قارعة الطريق تستجدى الثالثة المنسية، التى تعلمت الدرس جيداً ولن تُخدع أو تُلدغ من الجحر مرتين، ووقتها لن يجد «مرسى» من سبيل سوى العودة إلى الحبيبة الأولى بخُفى حنين، هذا إن عاد إليها أصلاً.
نقلاً عن جريدة "الوطن"