عمار علي حسن
هذا عنوان مسرحية للأديب والإعلامى المعروف محمود الوروارى نشرها منذ عشر سنوات وكُتبت قبل ذلك بثلاث سنوات، وكان فيها ذا بصيرة نافذة، وخيال وثاب، وألهمه الله القدرة على النبوءة، فرسم عبر نص محكم بديع، يضاف إلى مسرحيات ثلاث وروايتين وثلاث مجموعات قصصية وأربعة نصوص سينمائية، ملامح المشهد العبثى المؤلم الذى نغرق الآن فى تفاصيله المروعة.
فها هو يتوقع انقسام المصريين بين «نعم» و«لا»، مثلما جرى إبان الاستفتاء على تعديلات الدستور فى مارس 2011 ثم على الدستور المخطوف فى ديسمبر الماضى. وهنا يأتى النص:
«حسنة: معقول هم أكثر منا.
أحمد: نعم أكثر.. بل راحوا وجمعوا أنفسهم.. حتى الذى لم يدخل المسجد طيلة عمره، سيدخله اليوم ليقول نعم.
حافظ: هل تعلمون أن مصائب التاريخ من أقدم القدم كلها جاءت نتيجة هذه النعم».
هذا المشهد هو جزء من نص حوارى عامر بالجمال والمعنى، يدور فى مجمله حول طقس دينى معتاد، وهو تقديم النذور، التى انحدرت من الأموال إلى العيال، إذ قدم الناس فلذات أكبادهم قرابين، بعد أن وضعوا أطواقاً حديدية فى أعناقهم، فنمت أجسادهم وجمدت رؤوسهم عند حالها، ومعها ضمرت قدرتهم على الفهم والربط والإدراك والإبداع فكانت لهم أجسام البغال وأفهام العصافير، وبذا صارت عقولهم سجينة باسم تدين مغلوط.
ومع تقدم النص يمارس رجال الدين السياسة، ويترجل المعارضون الحقيقيون فى انكسار وانحسار، لتأتى صرخة الاحتجاج من النساء، اللاتى يرفضن الولادة، ويحتفظن بأجنتهن فى أحشائهن خوفاً عليهم من أن تسجن رؤوسهم فى أطواق الحديد فيسدرون فى بلاهة وعته وخمول. وحين يطلب منهن الرجال الإنجاب يقولن: «سوف نلد أطفالنا فى زمن أفضل وسوف نحتفظ بهم فى بطوننا حتى لو أصبحوا شيوخاً».
وتتضح الصورة أكثر فى حوار بين «حسنة» إحدى بطلات المسرحية و«سند» أحد أبطالها:
«حسنة: أخاف من الغدر، لا أدرى ماذا تخبئ لنا الأيام؟
سند: كل خير يا حسنة. ما دمت معى ستخبئ لنا الأيام سعادة، وأطفالاً يلعبون أمام أعيننا.
حسنة: والله لا أخاف إلا على هؤلاء الأطفال الذين سيجيئون. أخاف من الطوق الذى سيوضع فوق الرؤوس».
والبطل الأول للمسرحية «أحمد» شاب ثائر لديه قدرة على توقع ما سيأتى، وهو ما تقول بشأنه «حسنة»: «والله كل يوم يتأكد لنا صدق كلامه. كل ما قاله سابقاً تحقق ويتحقق». فى البداية يقاوم أحمد بالكلمات، فيبدع أشعاراً يغنيها «على المغنواتى» بصوت غارق فى الشجن، لكن حين تضغط السلطة الجديدة الغازية الغاشمة يجد نفسه مضطراً إلى التفكير فى اتجاه آخر. فحين يطالبه «القاضى» بألا ينجرف إلى العنف، ويدعوه «سند» إلى الهدوء، يرد أحمد: «من أين سيأتى الهدوء، وأنتم تقلعون آخر ما يذكرنا بأيامنا السابقة؟ كيف أهدأ وأنا أرى سكين الجزار قد غرس فى عنق الضحية وبدأ الذبح؟ وماذا أنتظر؟ وأنتظر من؟ الجميع مخدر، مقلوع من جذوره، ناقم على الوضع وغير قادر على تغييره، مهزوم قبل أن يدخل المعركة».
وربما يأتى الرد على الشعور الوهن فى موضع آخر من المسرحية على لسان فتاة تسمى «ظاظة» إذ تقول لـ«أحمد» حتى تقويه فى وجه سياسة الترهيب والخوف: «هناك ما يستحق، هناك الإحساس، الذى يشعرك بكيانك، إحساس الصمود والتحمل، إحساس الدفاع عما تؤمن به، وهناك أيضاً من يستحق».
ويقاوم القاضى على طريقته فحين يقول له كبير الحراس: «قلت لك تعالَ وتولى أنت الحكم بين الناس لكنك رفضت»، يرد عليه: «رفضت لأننى لا أقبل أن أحكم بغير قانوننا. هذا القانون الذى يلائم بلدتى، ويلائم عادات ومعتقدات أهلها».
وتنتهى الرواية بصرخة قوية من «حسنة»: «أن تسحق رؤوس أطفالنا فى الطوق حرام/ أن نقتلع من إنسانيتنا حرام/ أن نهان ونصمت حرام/ أن نكون خرافاً فى زمن كثر فيه الجزارون حرام/ الطوق الذى يوضع فى عقولنا حرام/ الطوق الذى يوضع فى أرزاقنا لنجوع حرام/ أى طوق فى الحياة حرام».
نقلاً عن جريدة " الوطن "