عمار علي حسن
بعير فى وجه حاسوب.. هكذا ظهر الفارق بين ثوار يطلقون غضبهم عبر أحدث ما جاد به العلم فى مجال الاتصالات، وسلطة أرسلت إليهم الجمال والبغال لتدوسهم فى ميدان التحرير، فعادت الدواب القهقرى وهى تحمل على ظهورها بقايا رجال مبارك لتلقيهم فى الدرك الأسفل من التاريخ.. لكنها لم تلبث أن عادت من جديد وعلى ظهورها رجال جدد، يرتدون فى معاصمهم ساعات حجرية، وينفخون فى الرمل متوهمين أن بوسعه أن يغطى على الطمى، ويأخذ البلاد والعباد إلى القرون الغابرة.
هو إذن «فرق توقيت» يجسد ويمثل المعضلة الرئيسة التى تعانى منها مصر الآن بعد مرور سنتين على ثورتها المجيدة، فارق بين من آمن منذ اللحظة الأولى بأنها ثورة لا بد أن تُحدث تغييرا جذريا، وتكنس فى طريقها ركام الفساد والاستبداد، وبين من اعتبرها فرصة تاريخية ليجلس على كراسى الحكم ثم يدير ظهره لكل شىء؛ دماء الشهداء، وحاجات البسطاء، ورؤى الأذكياء، وأحلام الشعراء.
وفارق بين من يرى أن التقدم هو الارتفاع إلى أعلى والسير إلى الأمام ومزاحمة الكبار على عظائم الأمور والأماكن والمكانات، ومن يتوهم أنه الهروب إلى دهاليز الماضى والعودة إلى الخيمة وريح السَّمُوم وصليل سيوف، يراوح بين نعرة القبيلة والتوهم بأن العقيدة تحتاج إلى حراس يزهقون الأرواح فى سبيلها.
وفارق أيضاً بين من يؤمن بأن الأمر الطبيعى هو أن يدخل التنظيم فى عباءة الدولة، وبين آخر يعتقد أن بوسعه أن يحشر الدولة فى عباءة التنظيم؛ الخيار الأول طبيعى وحقيقى ومبرر ومفهوم لا سيما فى بلد كبير وعريق مثل مصر، استطاع عبر تاريخه المديد أن يهضم ثقافات ويذيبها، ويطوق نوايا سيئة ويهزها حتى تتآكل ويفرغها تباعا من مضمونها. وهو مبرر أيضاً لأن كل الذين أنصتوا إلى الإخوان قبل الثورة ظنوا أن ما يحول بينهم وبين الدخول تحت طائلة الدولة هو وجود نظام مستبد فاسد يتربص بهم، لكن ها هم يجلسون مكانه ويحوزون ما هو أوسع من سلطاته، ومع هذا يصرون أولا على أن تبقى جماعتهم فوق الدولة أو بعيدا عنها أو دولة أخرى داخلها، ويصرون ثانيا على أن تأتى الدولة نفسها راكعة عن طيب خاطر وهى مغمضة العينين رافعة يديها فى استسلام ثم تهرع لتتدثر بعباءة الجماعة على صغر حجمها واهترائها لو علم أصحابها.
أما الخيار الثانى فيثير السخرية فضلا عن الاشمئزاز، ففضلا عن أنه ينم عن جهل وروح متوثبة للطغيان والاستحواذ ونفس شرهة تواقة للخطف والابتلاع، فإنه مستحيل تطبيقه، فلا الجماعة لديها مشروع لاستيعاب الدولة أو حتى إدارتها، ولا لديها من الخبرات والكوادر من بوسعهم أن يصنعوا قرارا رشيدا، أو يرتبوا أحوال الناس ومعاشهم على سنن الكفاية والعدل والرفاهية.. بل بدا شعارها الأثير «نحمل الخير لمصر» موضع تهكم شديد وجارح، فيما اختفى شعارها التاريخى «الإسلام هو الحل» بعد أن أدى دوره فى الاستعمال السياسى الواقعى والعملى المتنصل من أى حمولات للمبادئ والقيم والمصالح العامة.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة "الوطن"