عمار علي حسن
مادت الأرض تحت أقدام المتظاهرين حين فرقع رصاص من الجهة اليمنى للميدان، لكن السماء بقيت على حالها من الهدوء، مفتوحة أمام الروحين اللتين تسعيان فى الأثير نحو أهداف لا يمكن حصرها أبداً.
اقتربت روح أحمد من روح حنا وقالت لها:
- ما تكشّف لنا أراحنا من الحسرة.
- لا تنسى أن ما نراه ليس كل شىء.
- لكنه أبعد كثيراً مما يراه أولئك الذين يندفعون بكل كيانهم من أجل الحرية والكرامة، ولديهم شعور جارف بأنهما ثمرتان دانيتان.
- لا يدرى أى منهم، أن من سيضعون فى يده ما حصدوه سيسعى إلى الاستئثار به، وأن من سينازعونه لا يقلون عنه أنانية.
- الخيانة تلف حبالها الغليظة حول هذا الميدان الفسيح.
- ورائحتها العفنة تصل إلى عنان السماء.
- لكن الغاضبين الأبرياء لا يدرون عن هذا شيئاً.
- لو كان بيدنا لوقفنا فوق عمود النور هذا وقلنا كل شىء.
- هذا مستحيل.. مستحيل.
- وحتى لو كان ممكناً، هل تعتقد أنهم سيصدقون؟
- لا يصدق أغلب الناس إلا ما فى رؤوسهم من أوهام.
- لكن هناك من يتخيل بعض ما سيجرى.
- ما سيقع أبعد من أى خيال.
- الناس دود فى صخر أصم.
- أو أغنام فى مرعى يزحف عليه رمل ساف.
- لكن هناك من لا يريد أن يصير دودة ولا نعجة.
- هؤلاء هم الأجدر بأن يحيوا، لكنهم أكثر من يدفع الثمن.
- لأن أغلب الناس مربوطون من معداتهم.
- وهذا ما سيتم اصطيادهم منه، كما تعرف.
- وهناك طعوم أخرى للصيد ستظهر وتأخذ كل شىء إلى الوراء.
- تقصد من يزعمون أنهم يمتلكون مفاتيح الجنة ومغاليق النار.
- نعم. سيزحفون بعد قليل إلى هذا المكان، الذى لم يدر بخلدهم أبداً أنهم سيأتون إليه فى يوم من الأيام، وسيقفون هنا ويصرخون بما لم نقصده أبداً، ويزعمون أنهم كل شىء.
- ستراق دماء جديدة هنا. هم لن يدفعوا شيئاً، لكنهم سيجنون أشياء.
- إلى حين.
- نعم إلى حين.
- دعهم يفرحون بما تحت أقدامهم.
- طامعون.
- وكاذبون.
- لكن على قلب رجل واحد.
- قطيع، لكن هذه مزيتهم الأصيلة.
- لو امتلك منافسوهم نصف ما لهم من توحد واتحاد لما بقى لهم هم أى مكان تحط عليه أقدامهم.
دارت الروحان فى الميدان من جديد، بينما الليل يمضى راحلاً فى طريقه، غير عابئ بالدماء التى تلطخ حوافه المضاءة بنور المصابيح الخافتة. توقفتا عند رأس الفتاة الثائرة صفاء. كانت تبحث عن حسن وسط الزحام. هاتفته منذ ساعة وأخبرها أنه فى الميدان. قال لها إنه سيقابلها أمام محل بيع الحقائب المغلق الآن، والذى اشترت له منه قبل الثورة بشهرين حقيبته، وأهدته له فى عيد ميلاده. كانت صفاء تقف والحيرة تسكن ملامحها وعيناها زائغتان تحملقان فى الوجوه التى تظهر قسماتها فى هالات النور.
ثم مرقت الروحان فى مروج خضراء لا تبدو لها نهاية، والسعادة تغمرهما، بعد أن تساقطت الهموم إلى غير رجعة، وبدا لهما أن كل ما يتصارع عليه هؤلاء هناك فوق التراب والطين وبين امتدادات الملح الأجاج شىء تافه جداً، لكن أكثر الناس لا يعلمون، بمن فيهم هذا القصير المكروش الذى قفز إلى أعلى فى غفلة من الأيام والناس، فنسى تودده وتذلـله، وانتفخت أوداجه، والتوت شفتاه أكثر، وكاد أن يصرخ بكل ما أوتى من قوة:
- أنا ربكم الأعلى.
متجاوزاً العتبة التى أوقفها عنده أتباعه الذين شبهوه بالأنبياء وخلعوا عليه ولاية مزعومة لا تعرف إلى نفسه ولا إلى أنفسهم سبيلاً، ولا كل عبيد السلطان فى الأرض.
لكن الروحين اللتين تطيران حول الرؤوس فى الميدان كانتا تعرفان جيداً الرؤيا التى قصّتها عجوز على ابنتها المصابة فى الثورة وهى تراها تذبل وتتوجع وتكبر فجيعتها بمرور الأيام.
نظرت إليها وفى عينيها دموع متحجرة، وقالت:
- فرجه قريب.
فتطلعت الفتاة إليها، وتحركت شفتاها المقددتين، وقالتا فى هدوء وارتخاء:
- خير.
فأغمضت الأم عينيها قليلاً وقالت:
- رأيت رجلهم الاحتياطى الذى وضعوه على الكرسى الكبير وهو جالس على الأرض، فوق رأسه لفافة بيضاء، وقدماه مغروستان فى التراب، وعيناه ذاهبتان نحو قرص الشمس المجروح بسكين الغروب.
ولم تدرك البنت مغزى ما سمعت، حتى شرحت لها أمها ما تعتقده، مثلما شرحت رؤى ليل سابقة وتحققت.
وسمعت تأويل الحلم روحا أحمد وحنا فضحكتا وقالتا معاً:
- صدقت.
ورأتا معها نهاية كل شىء، حيث راحت الجدران المتعرجة تنهار فوق تلال من الرمل الساف القاحل، وانداح صراخ وعويل فى جنبات المكان.
نقلاً عن جريدة "الوطن"