توقيت القاهرة المحلي 08:51:12 آخر تحديث
  مصر اليوم -

واقعية لا وقوعية

  مصر اليوم -

واقعية لا وقوعية

عمار علي حسن

لا أحد ينكر ضرورة التفكير بواقعية فى السياسة، المحلية والدولية معا، ولا يمكن تجاهل أن الشحن المعنوى الذى أراد حشد الجماهير خارج الواقع طالما انتهى إلى كوارث. لكن هناك فارقا كبيرا بين الواقعية كمنهج سياسى عملى، قائم على حسابات دقيقة، وإدراك وفهم عميقين للمعطيات الحياتية، يرمى إلى تحويل الخسائر إلى مكاسب، والضعف إلى قوة، وإلى استغلال الركائز والمقدرات المتاحة مهما كانت قليلة فى حل المشكلات الموجودة، وبين الوقوعية التى تعنى الارتكان إلى رد الفعل، والالتصاق بالأرض، وافتقاد الفاعلية، والاكتفاء بدفع بعض الضرر، وإنجاز ما يفضى إلى مجرد الاستمرار فى ظل ضعف بنيوى وهوان مشين، والتذرع إما بأن هناك مؤامرة تحاك ضدنا، أو أنه ليس فى الإمكان أفضل مما يبذل من جهد وما يتحقق من نتائج، أو أن أى حركة إيجابية، حتى لو بدرجة خفيضة، ستنظر إليها القوى الكبرى فى العالم على أنها تحدٍ وعناد، ومن ثم ستسعى إلى تأديب صاحب هذه الحركة. والواقعية السياسية مدرسة ذات شأن عليها قامت أمم وتكونت إمبراطوريات، وأراد لها منظرها ومفكرها الأول هانز مورجنثاو، أن تكون إطارا لتفكير عقلانى فى حساب القوة وتعزيزها، ولم يكن يقصد منها، كما فعلنا نحن حاليا، أن يسوق العجز، بدعوى أن الهامش المتاح، لا يوفر أى قدرة على التحدى، أو على الأقل المناورة. ولا تقوم الواقعية على حساب ركائز القوة المادية الملموسة، العسكرية والاقتصادية والتقنية، فقط، بل تمتد إلى ما تسمى «القوة الناعمة»، التى تتمثل فى الحنكة الدبلوماسية، وديمقراطية نظام الحكم، والثروة البشرية، التى يراكمها نظام تعليمى ناجح وعصرى، يحقق بمرور السنين مكانة متعاظمة لأهل العلم والفكر والأدب، وقدرة مستمرة على إنتاج أشكال من الفن تنافس عالميا، وإفراز كوادر رياضيين يحققون إنجازات ملموسة على الصعيد الدولى. إن التاريخ طالما شهد نماذج لدول أوجدت لنفسها مكانا على خريطة الدول بفعل حسن توظيفها لقدراتها الناعمة. فالدبلوماسيون المحنكون أمكنهم أن يجلبوا احترام العالم للهند فى حقبة ما بعد الاستقلال، وقت أن كانت بلادهم، تعانى من ضعف اقتصادى وعسكرى. واليوم يلعب تقدم الهنود فى تكنولوجيا الاتصالات الدور نفسه. والصورة الذهنية العامة عن العقلية اليابانية جعلت اليابان تحظى بمكانة عالمية، خاصة بعد استخدام هذه العقلية فى خدمة الصناعة والإنتاج والإدارة المتطورة، رغم أن اليابان دولة بلا ذراع عسكرية قوية. والنظام القضائى لبلجيكا يمكنها من لعب دور دولى لا يتوافر لغيرها. والدور المحايد الذى تلعبه سويسرا جعلها مقصدا لحل الكثير من الصراعات والمشكلات الدولية، ومركزا لجذب رؤوس الأموال الطائلة. وقائد كاريزمى مثل نيلسون مانديلا جعل بلاده تحظى باحترام دولى سريعا بعد طول استهجان ونبذ إبان الحكم العنصرى. ورئيس مثقف مثل ليوبولد سنجور لفت الانتباه إلى السنغال بشدة حين كان يحكمها. وفضلا عن تنامى اقتصادها فإن وجود حاكم يمتلك رؤية دولية ولديه مواقف مشهودة فى مقاومة الهيمنة واحترام الخصوصيات والاستقلالية مثل مهاتير محمد جعل لماليزيا دورا ملموسا، على الأقل على الصعيد الإسلامى. والأديب الكبير جابرييل جارثيا ماركيز الفائز بجائزة نوبل جعل العالم يعرف أن كولومبيا ليست مكانا فقط لتجارة المخدرات، وكرة القدم جلبت للبرازيل شهرة ومكانة، لم يكن بوسعها أن تحققها من خلال الركائز الصلبة للقوة، كالاقتصاد والقدرات العسكرية وغيرها، وتحقق الأمر نفسه بالنسبة للكاميرون، لا سيما فى قارة أفريقيا. وبوسع التاريخ الحضارى أن يجلب المكانة والاحترام الدوليين، شرط حسن توظيفه فى خدمة الحاضر، وليس الاكتفاء بالوقوف عند حديث الذكريات عن المجد الحضارى فى الأزمنة الغابرة. لا يعنى هذا أبدا إهمال الركائز الصلبة للقوة، فكثير من الدول السابق ذكرها، اهتمت ببناء اقتصادها وقدرتها العسكرية، على التوازى مع تعزيزها الركائز الناعمة للقوة، خاصة أن هناك تغذية مرتدة، أو تبادل منافع، بين جناحى القوة هذين. فمع انتعاش حركة التصنيع العسكرى وتعزيز معدلات النمو الاقتصادى وتنويع قاعدة الإنتاج، يتم رفع كفاءة الأفراد، من الناحية المهنية، باكتساب مهارات جديدة والإلمام بتقنيات حديثة. كما يجرى على التوازى تعزيز القيم الاجتماعية الإيجابية، مثل الإنجاز والانتماء والتنافس والانخراط …إلخ، وهى جميعا من أوجه القوة الناعمة. نقلاً عن جريدة " الوطن "

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

واقعية لا وقوعية واقعية لا وقوعية



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon