عمار علي حسن
هى أغرب رحلة فى حياة الأسطى عبدالسميع الديب. المقصد ميدان التحرير، والركاب صنف آخر من البشر لم يألفه أو يعاشره من قبل. يسمع عنهم، ويراهم على شاشات التليفزيون يستعرضون لحاهم فى وجه المشاهدين. يقابل بعضهم فى الشارع، وفى المسجد يوم صلاة الجمعة. لكنهم أول مرة يملأون الأتوبيس الذى يسوقه، ويكون عليه أن يتعامل معهم.
فى السابق اعتاد أن يركب معه سياح أجانب. طلاب جامعات ذاهبون فى رحلة خلوية أو نزهة شاطئية. موظفون وفلاحون يقصدون الأراضى الحجازية لأداء العمرة أو الحج. أما هذه المرة فالأمر مختلف تماماً.
يجلس على عجلة القيادة، قدمه بين دافع البنزين وكابح الفرامل وعينه على الطريق. أما أذنه فمعهم، تلتقط كل ما يقولونه. وكعادة كل رحلة يبدأها بتشغيل الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الذى يعشق صوته. وضع الشريط، وانطلق الترتيل جلياً طلياً، يلين له قساة القلوب. ما إن بدأ فى الآية الأولى حتى وجد على رأسه شاباً فارع الطول، لحيته تصل إلى منتصف بطنه، يضع يداً على كتفه، ويمد بالأخرى شريط كاسيت مكتوباً عليه «الشيخ الحذيفى»، وقال:
- شغل هذا الشريط أفضل.
نظر إليه عبدالسميع:
- كله كلام ربنا، وصوت عبدالباسط لا يعلو عليه.
- لكننا نحن من استأجرنا الأتوبيس، ومن حقنا أن نستمع إلى من نريد.
ضغط الفرامل، فتوقف الأتوبيس فجأة، فهزهم هزاً، ودهس لحاهم فى المقاعد، وبعضهم انضرب قفاه فى المساند، وارتطم جسدا كل اثنين يتجاوران. ثم رفع رأسه وقال له:
- أنتم استأجرتم الرحلة، لكن لم تشترونى أنا.
وتدخل رجل فى منتصف العمر، لحيته خفيفة، وفى عيونه مكر ودهاء، ينادونه بالدكتور ياسر:
- خلاص يا أسطى، لأجل خاطرى، شغل الحذيفى، وكله كلام ربنا كما تقول.
أخذ عبدالسميع الشريط، ووضعه فى يمينه، وضغط زر التشغيل، فانطلق الحذيفى. وبعد ساعة تقريباً من الترتيل، انتهى الشريط، فراح السائق يقلب يده فى الشرائط المرصوصة داخل «التابلوه» العريض العميق، ليضع شريطاً لأم كلثوم، كما تعود فى رحلاته. وتقديراً للظروف التى يمر بها فى هذه الساعات اختار أغنية «حديث الروح»، وقال فى نفسه: قصيدة دينية راقية، لا أتصور أنهم سيعترضون عليها.
وما إن بدأت الموسيقى تتسلسل، حتى هاجوا صارخين فيه:
- حرام.. حرام.. حرام.
فابتسم، وقال بصوت مرتفع وصل إليهم جميعاً:
- حلال.. حلال.. حلال.
لكنهم أجبروه على نزع الشريط. وطلبوا منه أن يضع آخر يحوى حديثاً للشيخ أبوإسحق الحوينى. أخذه منهم، وفتح «التابلوه» ووضعه، ثم أقسم أن يكملوا الرحلة دون أن يسمعوا شيئاً.
فقال الدكتور ياسر:
- بروا قسم أخيكم، ولتكن فرصة لنا أن نتحدث عما سنفعله فى الميدان.
وجاء صوت شاب فى الخلف يردد هتافات مع جاره:
يا مشير يا مشير.. من النهارده انت الأمـير.
يا أوباما يا أوباما.. . كل اللى انت شايفة أسامة.
التفت إليهم الدكتور خالد:
- ليس من المستساغ أن تهتفوا دفاعاً عن أسامة بن لادن.
فقام أحد الشابين وسأله:
- أليس شهيداً؟
فابتسم، وقال له:
- الهتاف له سيضرنا، وسيستغله العلمانيون المتربصون بنا أسوأ استغلال.
ثم التفت الدكتور إلى رجل خفيف اللحية يجلس بجواره، وقال بصوت خفيض:
- مضطرون أن نصبر على هذه القطعان إلى حين، ثم نذبحهم على أبواب المدن.
فرد عليه:
- هم يساعدوننا فى تشويه شباب الثورة. ومن الخطر أن نقوم نحن بهذا الدور مباشرة؛ لأننا سنقدم أنفسنا للناس على أننا الثورة الحقيقية يوم نقبض على زمام الأمور.
(نكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة "الوطن"