عمار علي حسن
رن هاتف الدكتور ياسر، وتحدث مع شخص على الطرف الآخر، لا يعرفه السائق، ولم يسمع اسمه من قبل، لكنه استشعر من سير الكلام أنه شخصية مهمة، وأن كلامه أوامر، وما يطلبه يجب أن يطاع.
لكن كل شىء بان حين التفت ياسر إلى الرجل الذى يجلس جانبه، وقال:
- القيادى الإخوانى رأفت مغازى، يطلب منى أن أقنع من معنا هنا ألا يأتوا فعلاً يُحسَب علينا، لا سيما أن أغلبهم لم يخرج فى تظاهرة من قبل، وينظرون إلى غيرهم على أنهم أعداء لله.
زفر الرجل، وصمت قليلاً، ثم رآه السائق يلتفت إلى ياسر ويقول:
- هذه مهمة صعبة، مع أناس لا يقدّرون المصلحة جيداً، ولا تعنيهم صورتهم، وكل ما يهمهم هو أن يكون ما يسمونه الدليل الشرعى موافقاً لما يفعلونه.
وقام ياسر، وعاد خطوات إلى الخلف، حتى وقف فى منتصف الأوتوبيس. ابتسم فى وجوههم حتى بلغت شفتاه أذنيه، وهز رأسه، وملأ عينيه بامتنان مصطنع، وقال لهم:
- قيادات الميدان اتصلوا بى وأبلغونى ببعض الوصايا التى يجب أن نلتزم بها، حتى تصل رسالتنا اليوم إلى أعدائنا من العلمانيين، وتطمئن الجالسين فى بيوتهم، ينتظرون منا أن نساعدهم فى إخراج البلد من ورطتها.
قام رجل أشيب اللحية، وفى جبهته زبيبة وسيعة سوداء، ورد عليه:
- أى قيادات يا دكتور؟
- قلت مَن فى الميدان.
- نحن لا نخشى فى الحق لومة لائم.
- لكن الحرب خدعة يا شيخ، ونحن فى معركة مع قوى تريد أن تعيدنا إلى غياهب السجون، وتطفئ نور الله بأفواهها وسواعدها.
- نحن لا ننافق الناس، ولا نرائيهم.
- هذا ليس نفاقاً، إنما مكر فى مواجهة عدونا، ولدينا أدلة فقهية تبرر لنا هذا.
- الوصول إلى الدليل يحتاج إلى فقه وعلم بالأصول.
وشعر الدكتور ياسر بأن الجدل معه غير مجدٍ، وقد يودى به إلى نفق معتم. فابتسم، وقال:
- لن نختلف يا شيخنا، المهم أن نكون فى الميدان يداً واحدة. هتاف واحد، ولافتات موحدة، فغايتنا جميعا إقامة شرع الله. منذ أن نحط رحالنا هناك، حتى ننصرف مع أول الليل.
وضحك شاب ملتحٍ يجلس أمام الرجل الذى جادل الدكتور، وسأل:
- هل هذا معناه أنه لا يوجد قرار بالاعتصام فى الميدان؟
- التعليمات لم تقل باعتصام أبداً.
- يعنى لن نسلم من شماتة وتهكم من يصفوننا بأننا «ثورة ثورة حتى العصر».
- دعكم منهم، شهور قليلة ونحاصرهم حتى يعودوا إلى الجحور، فإن أطلوا برؤوسهم سنقطعها، أو نرميهم فى الزنازين، ليقتل الظلام والعطن أحلامهم.
ضحك الشاب وقال:
- كلامك مقبول يا شيخنا، لكنه لن يمنعنى من أن أقتص ممن هاجمونا، لا سيما الولد الذى يسمى حسن عبدالرافع. كم أكرهه؟ وطالما حلمت وأنا يقظان بأننى أغرس أظافرى فى عنقه، حتى تخرج عروقه فى يدى.
- هذا بالذات عقابه أليم، لكن ليس هذا وقته، نريد أن نطمئن الناس، ولا تنسَ أن هناك من يعجبهم كلامه، والاعتداء عليه سيغضبهم.
- فسقة مثله، وهم قلة.
- لا تنسَ أننا ذاهبون إلى الانتخابات، والأمر يحتاج إلى ترضية الناس، حتى ولو بابتسامة فى وجوههم، أو بمعسول الكلام.
كان السائق يعرف حسن، استمع له، وشعر بصدقه، فدخل كلامه قلبه. ضغط الفرامل فاهتزوا من جديد، حتى كاد ياسر أن يقع. نظر إليهم بغيظ فى المرآة التى تتوسط واجهة الأوتوبيس. زفر ونفخ، وتعوّذ بالله منهم. ومد يده إلى زجاجة مياه إلى جانبه فسكب ما تبقى منها فى فمه. ثم التفت إليهم وقال:
- استراحة يا مشايخ، لمن أراد منكم أن يأكل أو يشرب، أو يدخل الحمام.
رد عليه ياسر:
- معنا طعامنا وشرابنا، لكننا نحتاج إلى الحمام، لنتوضأ استعداداً لصلاة الجمعة فى الميدان.
فضحك وقال:
- سمعت خطيب الجمعة يقول إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
- طبعا يا أسطى عبدالسميع.
ابتسم ونظر إلى السماء، ثم رفع كفيه:
- ربنا يعطيكم على قدر نواياكم.
نقلاً عن جريدة "الوطن"