عمار علي حسن
تنصرف المقاطعة السياسية فى الغالب الأعم إلى مقاطعة الانتخابات، التى تعد أداة احتجاج سياسى، تتعدى مجرد الاكتفاء بإجراءات أقل من قبيل إبطال الصوت والتصويت بالنكاية والامتناع عن التصويت، تقوم بها القوى السياسية المعارضة حين يستقر فى يقينها أو تتعاظم لديها شبهات تبين أن السلطة ستزور الانتخابات، أو تزيف إرادة الأمة، بوسائل عديدة، أو أن هذه السلطة فقدت شرعيتها من ناحية الجوهر والمضمون، وبالتالى فإن دخول المعارضة لانتخابات غير نزيهة سيعطى من فقد شرعيته فرصة جديدة لا يستحقها ليجدد هذه الشرعية ولو من الناحية الشكلية البحتة. وإذا كانت الاستفتاءات تتطلب نسبة معينة للحضور يمكن للمقاطعين أن ينجحوا فى إبطال العملية برمتها إن حشدوا نسبة من المقاطعين تحرم العملية من حيازة النصاب القانونى الذى يكفى ويكفل تمريرها قانونيا.
وهناك دول تتبع أسلوب «التصويت الإجبارى» ولذا فهى تعتبر المقاطعة نوعا من «العصيان المدنى»، ومن هنا قد يلجأ كثيرون فى هذه الحالة إلى تخفيض موقفهم الرافض للعملية الانتخابية، من خلال إبطال الأصوات، بترك ورقة التصويت فارغة، أو بشطب أسماء المرشحين، أو كتابة تعليقات رافضة لكل المرشحين أو للعملية الانتخابية برمتها.
ويمكن أن يتم «التلويح بالمقاطعة» من أجل إجبار السلطة على الاستجابة لاشتراط المعارضة وجود ضمانات كافية للنزاهة حتى يمكنها أن تخوض غمار الانتخابات، كما يمكن أن تكون المقاطعة جزءا من خطة شاملة للاحتجاج السلمى تسعى المعارضة إلى تنفيذها، وتجد فى أيام الانتخابات فرصة للحشد والتعبئة لاسيما مع انجذاب الجمهور العريض إلى العملية السياسية، وبالتالى تصبح المقاطعة خطوة أو حلقة فى سلسلة طويلة، تسبقها حلقات وتتبعها أخرى، ويمكنها فى هذه الحالة أن تكون رافعة قوية للضغط على السلطة المستبدة أو إزاحتها لكن هذا يتطلب توافر عناصر محددة، منها: إقناع قاعدة شعبية عريضة بجدوى المقاطعة، وتنظيم شبكة اجتماعية قوية وخطة دعائية ناجعة فى سبيل تحقيق هذا الهدف، وطرح بدائل أمام الناس للمقاطعة حتى لا تتحول إلى عمل سلبى، يكتفى بالامتناع ولا يطوره نحو فعل إيجابى يحقق الغاية منه. وتكون المقاطعة ناجحة إن اتفقت عليها كل أحزاب المعارضة والحركات الاجتماعية والتنظيمات السياسية، بما يقود إلى عزل النظام الحاكم أمام الرأى العام المحلى والدولى.
والمقاطعة قد تصاحبها رفض أى حوار مع السلطة وهجرها تماما ونبذها وإبداء الاستهانة بها وتجريسها أو فضح ممارساتها وتبنى خطاب سياسى مضاد لها، وقد تتخللها أشكال متدرجة من الحوار إما أنها تهدف إلى إقناع النظام الحاكم بالعدول عن الطريق الذى يسير فيه، وتراه المعارضة مضرا بالمصلحة الوطنية عامة وبالممارسة الديمقراطية والخطط التنموية على وجه الخصوص، وإما أنها تهدف إلى إحداث خلخلة فى أركان السلطة بهز تماسكها عبر إقناع شخصيات تسهم فى صناعة القرار واتخاذه بضرورة الاستجابة لمطالب المعارضة أو إبداء الامتعاض من الدائرة العليا فى السلطة، أو جذب مؤسسات داخل الدولة إلى مسار المقاطعين، بما يحرم هذه السلطة ولو جزئيا من استغلالها بكامل طاقتها فى مقاومة المقاطعة أو محاولة إفشالها أو التقليل من آثارها.
وبصفة عامة تعد المقاطعة فى شتى أشكالها ومجالاتها نوعا من المقاومة المدنية أو النضال السلمى، الذى يتدرج من الغمغمة حتى العصيان المدنى، كما قد تعد صورة من صور الديمقراطية التشاركية، التى ترمى إلى حشد الشعب أو قطاع عريض منه إلى الضغط على السلطة أو تقليم أظافرها، أو تهيئته لاحتجاج واسع النطاق قد يؤدى إلى إزاحتها، أو وضعها على حافة السقوط انتظارا لوسائل أخرى أقوى تحقق هذا الهدف.
من دون الأخذ فى الاعتبار كل هذا تصبح المقاطعة مسألة بلا جدوى، أو «حجة البليد»، لكن الذكى والقوى هو من يجعل من هذا الفعل ضربة قوية على رأس نظام حكم يترنح، أو رصاصة الرحمة التى تطلق على سلطة تعانى من مرض عضال لا يرجى شفاؤه، ففى النهاية: «لكل داء دواء يستطب به.. إلا الحماقة فقد أعيت من يداويها».
نقلاً عن جريدة الوطن