مصر اليوم
هناك من هرولوا نحو إرضاء الإخوان لأنهم حازوا السلطة، وهؤلاء هم المتأخونون، الذين سيكونون سوساً ينخر فى جسد الجماعة العجوز بمرور الوقت؛ فالمتأخون إنسان انتهازى بالسليقة، يقوم كل لحظة بمراجعة علاقته بالجماعة وزائدتها الدودية المسماة «حزب الحرية والعدالة» فإن وجد أن هناك ما يعود عليه بالنفع، فسيظل مستمرا فى موقعه ملتصقا بقادة الجماعة، يتزلف إليهم، ويعطيهم من طرف اللسان حلاوة حتى يحصل على المزيد، فإن رآهم شمّر عن ساعديه حتى يوهمهم أنه يبذل قصارى جهده فى سبيل مصلحتهم ورفعتهم، وإن غابوا عن عينيه تكاسل وتراخى وزاع وربما يخرج لهم لسانه.
والمتأخون قد يكون ثقباً فى الصندوق الأسود لأسرار الجماعة، وهو بالطبع لن يتمكن من الوصول إلى قعر الصندوق هذا، لكنه سيسترق السمع إلى ما يقوله بعض قادتها، لا سيما حين يتململون من الأوضاع التى آلوا إليها، وينظرون إلى ما فى أيدى زملائهم ممن ركبوا فوق أعناقهم. وهذه الأسرار ستتسرب تباعاً إلى خارج التنظيم الحديدى، فيعرف الناس طرفاً مما حرص القادة على كتمانه طويلاً، فتنفضح عوراته، وتظهر مزالقه، وتنكشف نواياه، ويجد من يناوئونه سبيلا إليه.
والمتأخون قد لا يكون بالضرورة عضواً دخيلاً على الجماعة أو حزبها، أو عنصراً مدسوساً أو مزروعاً من منافسيها فى الساحة الاجتماعية والسياسية والمجال الدينى أيضاً، بل قد يكون «إخوانياً» صميماً، عاملاً فى الجماعة، راسخ الأقدام فى تنظيمها، من أولئك الذين التحقوا بقطارها من محطته الأولى، لأنه وجد فى كنفها رعاية مالية كان فى أمسّ الحاجة إليها. فالجماعة تقوم بالإنفاق على أطفال فقراء ويتامى منذ صغرهم، ليس كعمل خيرى كما تفعل الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة مثلا، إنما كجزء من آليات التجنيد وجذب البراعم والأشبال، الذين يعدون على مهل ليكونوا أعضاء فاعلين فى الجماعة بعد تخرجهم فى الجامعات.
بعض هؤلاء قد يقتنع بمرور الزمن بنهج الجماعة وأفكارها، فيخلص لهذا الشق المعنوى أو العقدى، حسب ما يصفه الإخوان، وبعضهم لا يقتنع، لكنه يجد نفسه مربوطا بمصلحته أو شبكة علاقات اجتماعية تلتف حول عنقه، ولذا يظل موجوداً جسداً فى الجماعة، لكن روحه تهفهف بعيداً عنها كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً. وهؤلاء ينفضون عن كاهلهم أحياناً عبء السقوط الأخلاقى للجماعة ولا يبدون تحمساً شديداً للدفاع عنها، فإن وجدوا من يطمئنون إليه من خارج الجماعة أسروا إليه بالمشكلات التى يواجهونها، والانتقادات التى تنحبس فى صدروهم حيال أداء قادة الإخوان. وبعضهم قد يواجهك بالعبارة الشهيرة «أنا مش إخوان»، ليس لأنه ملقن أن يقول ذلك حتى يتحايل عليك ويتمكن من امتلاك رأسك فيقنعك بوصفه محايداً، لكن لأنه يشعر بالخزيان حيال ما جرى لصورة الإخوان فى المخيال الشعبى المصرى الآن.
والمتأخون لن يكون فى الصف الأول حين تحين اللحظة الفاصلة للجماعة، سواء إن أخذت المجتمع كله إلى مواجهة عنيفة، لا قدر الله ولا سمح، أو كانت متجسدة فى انتخابات مقبلة، خاصة أن من بين المتأخونين من يسعون إلى تعزيز مراكزهم داخل الجماعة عبر الترشح للانتخابات والفوز فيها، فإن وجدوا صدّاً أو استبعاداً من قبل قادة الجماعة سيتميزون غيظاً وإن كتموا، ويشعرون بالغبن وإن بالغوا فى اصطناع الرضا. والثابت تاريخياً أنه لا يوجد تنظيم عاش على ظهر الأرض كان كل رجاله على قلب رجل واحد، ومخلصين للفكرة مهما كانت قيمتها أو عمقها أو اتساقها وتماسكها، وإلا ما كان قد صُنِّف هؤلاء فى دوائر متلاحقة سواء من حيث النفوذ أو الولاء. وحتى المجموعات التى تحلقت حول الأنبياء لم يكن أفرادها متساوين أبداً فى الإيمان بالرسالة، وإلا ما وجدنا الحواريين والصحابة، وتبعتهم دوائر أخرى من الملتفين حولها.
وقد يكون اقتراب «النفاق» مدخلاً لفهم موقف ووضع المتأخونين، مع الأخذ فى الاعتبار أننا نتحدث فى مجال الولاء السياسى والاجتماعى والفكرى وليس فى موضع الإيمان والكفر، لكن كما أن المنافقين يشكلون خطراً على رسالات السماء، أمضى أثراً بكثير من الكافرين بها، حسب ما ينبئنا القرآن الكريم، فإن المتأخون، أو أى شخص ينتمى اسما لتنظيم أو جماعة ما من دون إخلاص لها، يمثل خطراً شديداً عليها أيضاً.