عمار علي حسن
عاد المستشار عادل عبدالحكم إلى فتح ملف قضية شهداء الثورة وراح يقرأ على مهل. الأوراق ناقصة، لا تجلى الغموض الذى يحيط بالجريمة. واستماع النيابة إلى الشهود لم يضف شيئاً جوهرياً، والتحقيقات مشحونة بالإجابات المراوغة. ولجنة تقصى الحقائق التى شكّلها الرئيس الجديد لم تصل إلى شىء ذى بال.
أغلب الإجابات كانت: «لا أعلم.. لا أعرف.. لا يمكن.. مستحيل.. لم يحدث مطلقاً.. لم أكن متواجداً.. لم يرد بخاطرى يوماً ما... إلخ». فكل الأقوال لا تفضى إلى شىء ذى بال. كلها أقوال مرسلة لا ترقى إلى مرتبة الدليل. طلاسم تلك أم متاهات؟ أم ملفات ناقصة كأغلب الملفات التى نظرها القضاء منذ خلع الطاغية؟
لم يكن عادل عبدالحكم بعيداً عن كل ما يجرى. كان يتابع الصحف يومياً، ويجلس فى المساء أمام شاشة التليفزيون. وكم ضحك من أعماقه حين وصف الليبراليون واليساريون يوم زحف الجلاليب واللحى والرايات السود إلى الميدان بـ«جمعة قندهار»؟
هو يعلم أن مشهد قندهار الذى فاجأ المصريين جميعاً لا يضيف شيئاً إلى الواقع. يفهم أن مثل هؤلاء نقابلهم فرادى فى كل مكان، لكن حين تلاحموا فى البقعة التى لم تكن لهم فى بداية الطريق تعرت الحقيقة أكثر أمام كل العيون، وبدا المنظر خارج الزمن، وسارت الأمور كلها فى طريق غير الذى قصده من أطلقوا الغضب.
طالما رأى بعض هؤلاء فى ساحات المحاكم، متهمين وقضاة. لا غرابة فى الصنف الأول، فكم طاردهم الطاغية بعد أن حملوا السلاح لإزاحته وفشلوا؟ لكن الصنف الثانى كان غريباً جداً بالنسبة له.
كان بعض زملائه يهمسون فى أذنه ليحدثوه عن قضاة ينتمون إلى جماعة الإخوان، لكنهم يخفون انتماءهم. وحين تجمع الآلاف قبل سنين فى مقر «نادى القضاة» بقلب القاهرة، ليطالبوا باستقلال القضاء عرف الكثيرين منهم. تحدثوا فعرفهم. خطابهم لا تخطئه أذن. أذنه هو تدربت على سماع ما يدل عليهم أثناء نظره قضاياهم عبر رحلته الطويلة مع العدالة. وكان يعرف أن التنظيم حريص على أن يبقى هؤلاء خارج دائرة الشبهات، لا يلزمهم باجتماعات ولا التزامات، وعليهم فقط أن يكمنوا فى أماكنهم إلى حين.
يومها اقترب من أحدهم، وكان انتماؤه الإخوانى معروفاً لديه، ولا يرقى إليه شك، وقال له:
- يبدو أن إخوانك كثيرون هنا.
فابتسم وقال له:
- لنا ثلث كل زملائك.
- الثلث.
- أو يزيد قليلاً.
وعندما تعجب من قوله، ضحك وقال:
- لا تتعجب، نحن تنظيم ليس هيناً، لنا أدواتنا، ونختار رجالنا، وقد وصلنا مع الزمن إلى كل الأماكن، بما فيها تلك التى لا تخطر على بالك.
لكن «عبدالحكم» كان يعرف أن زميله الإخوانى هذا يبالغ كعادتهم. إنه استعراض القوة الذى قد يغرى ضعاف النفوس بالانضمام إليهم، أو يفت فى عضد من يرفضونهم ويعتقدون أن المقاومة خاسرة.
ودارت الأيام فرأى بعينيه بعض دوائرهم، تقابل دوائر من كان يحركهم الرئيس قبل سقوطه، وبينهما يبقى هو وأمثاله حائرين.
كان عائداً من المحكمة حين انحشرت سيارته فى زحام راكد أمام «مجلس الدولة» وقت أن كان ينظر قضية البرلمان غير الدستورى، وخرم أذنه الهتافات: «والله زمان يا مجلسنا تسلم إيدك يا ريسنا»، «يا قضاة يا قضاة لا تخشون إلا الله»، ولمح بعينيه شباباً يرتدون زياً أحمر مكتوباً عليه «الشعب يريد تطهير القضاء»، وتذكر ما سمعه من زميل له قبل أيام من أن «الجماعة» جهزت قائمة بأكثر من ألف محامٍ إخوانى تريد تعيينهم فى القضاء بعد الإطاحة بكل من لا يرضح لها، وزفر متحسراً على ما سيجرى للعدالة.
كانوا يقفون أمام شاب طويل لحيته كثة يمسك بكلتا يديه رأس خروف مذبوح بعد أن ألصق عليها اسم أحد كبار القضاة. راح يطوح رأس الخروف فى الهواء، بينما كان الشيخ رأفت مغازى يقف هناك فى الطرف الأيمن ناظراً إليه وهو يبتسم فى هدوء.
قهقه بقوة المرارة التى اندفعت فى حلقه، وتعجب سائقه الذى لم يرَه من قبل إلا وقوراً يكتفى بالابتسام، ولا تفارقه النبرة الهادئة. وقال بصوت مسموع:
- حين يأتى الحكم لصالحهم يصرخون «يحيا العدل» وإن أتى لصالح خصومهم يطالبون بتطهيرنا، نسوا سريعاً أننا مكناهم بأحكامنا المتتالية، ولولا عدل بعضنا لعادوا إلى الأقبية والمهاجع والزنازين.
اكتفى السائق بابتسامة، ثم تقدم ليحتل الأمتار الثلاثة التى انفرجت أمامه، ثم نظر إلى الحشد الكبير وقال:
- حرام عليهم.
ابتسم القاضى وعاد إلى وقاره، وقال: حرامنا حلالهم.
لم يدرك السائق ما يقصده، فلاذ بصمت، وانفتح الطريق فمضى.
نقلاً عن جريدة "الوطن"