عمار علي حسن
التسامح هو صورة التكيف التى بمقتضاها تميل الجماعات المتعارضة إلى الانسجام المتبادل، وتحاشى الصراع من أجل التوصل إلى حل عملى، فى ظل مبدأ عدم التدخل فى معتقدات وتصرفات الآخرين التى لا يحبذها المرء. ومن ثم فإن قضية «عش واترك الآخرين يعيشون» تعتبر مثالا مبسطا على التسامح.
وتوجد درجات متنوعة لمبدأ عدم التدخل، أولها أن يتجاهل المرء الآراء والأفعال التى لا تناسب طبيعته، وثانيها أن يعبر عن عدم تحبيذه لها، وثالثها أن يحاول دحض الآراء والأفكار التى لا يستسيغها.
والتسامح من القيم الأصيلة فى ثقافة الديمقراطية، إذ إن الحريات الثلاث المرتبطة بالتفكير والتعبير والتدبير، تنطوى على تسامح مع المعارضة السياسية، أو مع الآخر المختلف معنا فى الاتجاهات والتوجهات. ويوصم بالتعصب والاستبداد كل من يحاول أن يحرم المعارضين من التعبير اللفظى والحركى عن أنفسهم، ما دام قولهم وفعلهم لا يخالف القانون، ولا يشكل اعتداء على حريات ومصالح الآخرين.
وقد وضع «جون لوك»، وهو من كبار الفلاسفة المدافعين عن التسامح الدينى فى وجه تعصب الكنيسة وتجبرها، مجموعة من الضوابط، التى لا يمكن تعديها حتى يصبح التسامح قيمة إيجابية، ولا ينزلق إلى التساهل أو اللامبالاة أو حتى ما هو دون ذلك بكثير. ومن هذه الضوابط الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بتدمير المجتمع، وإشاعة الإلحاد والفوضى، وتدمير بنية الدولة وتعريض مصالحها الوطنية للخطر، والتعدى على أموال الآخرين وحرماتهم، وإبداء الولاء لحكام أجانب، ما يعنى خيانة الوطن، والخيانة ليست وجهة نظر، بل جريمة بشعة، لا يجب التساهل أبدا فى عقاب مقترفيها.
وأقر الإسلام فى نصه ثقافة التسامح من خلال تأكيده على مبادئ الإخاء الإنسانى، والاعتراف بالآخر واحترامه، والمساواة بين الناس جميعا، والعدل فى التعامل مع الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية واللسانية، وإقرار الحرية المنظمة. وهناك عشرات الآيات القرآنية التى ترسخ هذه المبادئ. أما على مستوى الفلسفة الإسلامية، فربما يكون الكندى من أكثر من أقروا ثقافة التسامح حين دعا إلى منطلقات خمس هى: ضرورة البحث عن الحقيقة لذاتها، وعدم إحاطة رجل واحد بالحقيقة، بل قد لا يحيط بها الجميع، وتعرض الكل للخطأ، كما أن الوصول إلى الحقيقة يتطلب مشاركة الناس جميعا، وأن التسامح ضرورة من أجل تحصيل التقدم. لكن كثيرا من الممارسات التى قام بها أغلب حكام المسلمين، ومن تحلق حولهم من الولاة والأتباع، افتقدت إلى روح التسامح، وخالفت الكثير مما جاء فى النص القرآنى الكريم.
وقد اختلف مفهوم التسامح فى الماضى عما هو عليه الآن. فمن قبل اكتسى هذا المفهوم بطابع أبوى، ولم يكن ناجما عن تطبيق مبدأ أو فكرة عظيمة وعميقة إنما مجرد سلوك فاضل، ما يعنى أن هناك طرفا لديه اليد الطولى على طرف آخر، وأنه يتسامح معه من قبيل العطف والشفقة أو فعل الخير. من هنا تبدو فكرة التسامح مرتبطة بالتعالى والازدراء بل والطغيان، إذ إننا حين نقول لشخص إننا نتسامح مع ما يفكر فيه، فهذا معناه أن تفكيره لا قيمة له، لكننا سنغض الطرف عن ذلك من قبيل المجاملة.
(ونكمل غدا إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن "الوطن"