توقيت القاهرة المحلي 11:01:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قاوموا تصحّوا

  مصر اليوم -

قاوموا تصحّوا

عمار علي حسن

لا يسمع الناس كثيراً عن المقاومة إلا بُعيد الحروب وأثناءها وأيام الاحتلال وكذلك فى معرض الرد العملى على التسلط والاستبداد والحكم الفاشى أو الفاشل، مع أنهم لو أمعنوا النظر فى حياتهم، وفى مفردات الطبيعة، وكل شىء يجرى ويتم حولهم، بأيديهم أو من صنع غيرهم، لاكتشفوا أن الحياة نفسها خيار ناصع جلى للمقاومة. فنحن نحيا لنقاوم الفناء، ونتوالد ونتكاثر لنقاوم الانقراض، ونتكلم لنقاوم الصمت، ونتعلم لنقاوم الجهل، ونتداوى لنقاوم المرض، ونكدح ونكسب لنقاوم الفقر والعوز، ونفرح لنقاوم الحزن، ونعمّر لنقاوم الخراب، ونبنى لنقاوم الهدم، ونجمل أنفسنا وما حولنا لنقاوم القبح، ونقبض على الحق لنقاوم الباطل فيزهق أو يتقهقر، ونفعل الخير لنقاوم الشر الطافح فى كل مكان وفى أى لحظة. وجسدنا نفسه يقاوم بعضه بعضا، فالمخ يكبح جماح الغرائز والعواطف إن تعدت حدودها الطبيعية، والعاطفة تناضل ضد التبلد والتحجر الذى يجعل الإنسان يشبه الجماد، وضد التجرد الذى ينزع عن الإنسان مشاعره الفياضة ويحوله إلى آلة، وجهاز المناعة يقاوم المرض، فتدخل كرات الدم البيضاء فى معارك حامية ضد الميكروبات والجراثيم حتى تتغلب عليها أو تهلك دونها، والكبد يكافح ضد السموم التى تتسرب إلى الجسم مع المأكولات والمشروبات والتنفس، والإرادة التى هى طاقة تمتزج فى صناعتها كل قوى الجسد، المحسوسة واللامحسوسة، تقاوم أسباب القعود والرضوخ والتراخى والتفلت كافة. وكل تقدم حققه الإنسان فى هذه الحياة قام على أكتاف المقاومة، التى تبدأ بكلمة «لا» الرافضة لقبول الأمر الواقع إن كان متخلفاً أو مهيناً أو كريهاً. وكل ما يجرى حولنا نبت من رحم المقاومة، فالإنسان قاوم التصاقه الدائم بالأرض وجاذبيتها القوية فحاول أن يطير، وراح يجرب الطيران من دون كلل ولا ملل، ابتداءً من عباس بن فرناس الذى ثبت أجنحة فى جسده وانتهاءً بالمركبات الفضائية التى تجول على الكواكب، مروراً بالأخوين رايت اللذين اخترعا طائرة بدائية بسيطة، هاهى تتطور حتى تصل إلى الحال التى هى عليه الآن، فى مقاومة لسلطان المكان على الناس. وقاوم الناس المسافات الطويلة بين القارات الست بثورة عارمة فى مجال الاتصال، حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة. وبالطريقة نفسها تقاوم كل الكائنات، فالنمل يقاوم البرد بتخزين قوته أيام الصيف، والأرانب البرية تقاوم أعداءها من الحيوانات المفترسة بحفر الجحور الطويلة فى الأرض، والقنفذ يقاوم بشوكه الأفواه المتأهبة لالتهامه، والسلحفاة تقاوم بجلدها السميك، ويقاوم الجمل نعومة الرمل بخفيه الطريين المفرطحين القويين فى الوقت نفسه، وفى المياه الدافقة تقاوم بعض الأسماك الصغيرة والرخوة بضخ شحنات كهربائية تبعد عنها الأسماك الكبيرة، أو تحتمى بالصخور البحرية المستقرة فى الأعماق. والأمر نفسه ينطبق إلى حد كبير على الجماد، فالشادوف يمتلئ بالماء ويقاوم كتلة الحجر المثبتة فى الطرف الآخر، وهذه الحال متكررة فى كل الروافع، فهناك ذراع القوة وذراع المقاومة، وكلما كان الأول أقصر من الثانى سهلت المهمة على الإنسان، والعكس صحيح تماماً، وتتعدد أنواع هذه الروافع، فتتوزع عليها الأدوات والآلات التى نستخدمها فى حياتنا اليومية، وتقع عليها أعيننا فى كل مكان، وفيها جميعاً تتجلى كل معانى المقاومة. والحياة كلها يترتب بعضها على بعض أو يقاوم كل منها الآخر، فيدفع الله الناس بعضهم ببعض حتى لا تتهدم صوامع وبيع، وتتغذى الحيوانات فى الغابات على بعضها البعض، وكذلك الحشرات والطيور والزواحف، حتى لا يختل التوازن البيئى، ويتدخل الإنسان ليحمى الأرض الخصبة من التصحر، ويمنع الأطعمة من التعفن بالتبريد والتمليح والتسكير والتجفيف والتدخين والتخليل. وهناك قول مأثور منسوب إلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه يجيب فيه عن سؤال حول أشد جند الله فيقول: الجبال، والجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، فالنار أقوى، والماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى، والإنسان يتكفؤ الريح بيديه وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان، فالنوم أقوى، والهمّ يغلب النوم، فأقوى جند الله الهمّ يسلطه الله على من يشاء. وهذا الترتيب العجيب الذى يتداخل فيه المادى مع المعنوى يتأسس على المقاومة، فكل شىء يدفع ما قبله، فى سلسلة قد تستدير فى حياتنا الدنيا ولا تنتهى، إذ يمكن مقاومة الهموم بالاستغراق فى عمل مضنٍ وشاق، ينجذب إليه كل كيان الإنسان تماماً، وقد يكون هذا العمل هو تفتيت الصخر، وتكسير الأحجار، كما يفعل السجناء، فنعود إلى النقطة الأولى، ونبدأ منها دائرة دنيوية جديدة، تنطوى على أشكال وصنوف ودرجات لا تنتهى من المقاومة. نقلاً عن جريدة "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قاوموا تصحّوا قاوموا تصحّوا



GMT 10:09 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط والشرع وجروح الأسدين

GMT 10:08 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

بجعة سوداء

GMT 10:07 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عن «شاهبندر الإخوان»... يوسف ندا

GMT 10:05 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

لبنان... إلى أين؟

GMT 10:04 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... من سيكتب الدستور؟

GMT 10:02 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

اكتب أنت يا عندليب!

GMT 10:00 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

أُهدى جائزتى.. إلى جريدتى

GMT 09:59 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

الزمن الإسرائيلى

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon