عمار علي حسن
سألنى أحد القراء النابهين: أين حدود النبوءة فى روايتك «سقوط الصمت» التى صدرت مؤخرا عن نهاية حكم الإخوان فى مصر؟ فأجبته: ألم تقرأ هذا المقطع: «رأيت رجلهم الاحتياطى الذى وضعوه على الكرسى الكبير وهو جالس على الأرض، فوق رأسه لفافة بيضا، وقدماه مغروستان فى التراب، وبصره ذاهب نحو قرص الشمس المجروح بسكين الغروب. كانت عيناه منبلجتين، بينما هناك فى الخلفية قصر ذو أسوار عالية قد انفتحت أبوابه أمام سيل عارم من البشر الغاضبين. ورأيت أجولة من دقيق ملقاة على الأرض تدوسها الأقدام فتنفلق ثم ينفرط أبيضها تحت النعال وهى تتقدم دون أن تبالى نحو حفل شواء كبير فى البهو الواسع والردهات والدهاليز. المكان كان يغص بالمتدفقين بلا روية، وقطع اللحم الكبيرة ملضومة فى أسياخ حديدية طويلة مسنونة، ترقد متراصة فوق أزاهير اللهب، وراحت حوافها تحترق، ورائحتها تنداح فى الهواء الحبيس، والدخان يغطى الرؤوس. كانوا جائعين، وعيونهم تقدح شررا، راح ينفلت من المقل ويزركش السواد بأحمر فاتح. بعض السواعد كانت تنزف دما. أما الأيدى فقد امتدت تتخطف اللحم المشوى، وترميه فى أفواه وسيعة، وتتعالى غمغمة المحتشدين فى الصفوف الخلفية انتظارا لدورهم فى الوليمة».
قال: نعم قرأته، وفهمت ما فيه، لكنك فى كتابك «التغيير الآمن.. مسارات المقاومة السلمية من التذمر إلى الثورة» انحزت إلى النضال السلمى التام، ورأيته وسيلة أنجع للتغيير، فما الذى جعلك فى روايتك تلك تعتقد أن العنف سيصاحب عملية إنزال جماعة الإخوان من سدة السلطة؟
كان سؤاله غاية فى الأهمية، لكنه يفترض ابتداء أن ما فى الرواية يجب أن يتطابق مع ما فى الكتاب، رغم اختلاف اللونين من الكتابة. ففى الأول أنا أكتب رأيى وموقفى وأوضح اتجاهى وتصورى، بطريقة مباشرة لا تورية فيها ولا مواربة ولا مجاز، بينما فى الرواية أرسم ملامح آراء وأحلام ورؤى الشخصيات التى تتفاعل على الصفحات، من دون أن يكون ما تذكره هو ما أتبناه بالفعل، حتى لو تفهمته أو صغته بأسلوبى.
وهنا عدت لأساله: ألم تقرأ الحوار القصير الذى سبق هذا المقطع الذى استنتجت أنت منه موقفى مما سيأتى؟ قال: نعم. قلت: الحوار يدور ببساطة بين ممرضة أصيبت بعجز كلى فى ميدان التحرير أثناء الموجة الأولى للثورة وبين والدتها الحزينة عليها، وهو رؤيا منام، تسمعها روحا شابين استشهدا وهما تدوران فى الميدان فوق رؤوس المتظاهرين، وبعدها «رأتا معها نهاية كل شء، حيث راحت الجدران المتعرجة تنهار فوق تلال من الرمل الساف القاحل، وانداح صراخ وعويل فى جنبات المكان».
قال: نعم هو رؤيا، لكن تأويلها مؤلم. فقلت: للأسف: السلطة لم تفتح ولو فرجة ضيقة أمام حل سلمى، وراحت ترهب الناس وتخيفهم وتتحالف مع تنظيمات إرهابية من دون أن تثبت لهم أدنى كفاءة فى إدارة البلاد، أو أى إشارة إلى إمكانية استمرارها بلا قهر ولا تغلب. وأنا أؤمن أن الأغلبية الكاسحة من المصريين تؤمن بالتغيير السلمى، لكن للسلطة أدواتها العنيفة، وسيجد الناس أنفسهم مضطرين إلى أن يردوا على العنف بمثله أو بما هو أقوى منه.
وهنا عاد يسألنى من جديد: هل كان الدافع وراء كتابة هذه الرواية هو تصدير تلك النبوءة؟ فأجبته: لا بالطبع، فقد بدأت كتابتها قبل وصول الإخوان للحكم، وهى تشمل رحلة زمنية تسبق انطلاق الثورة وتتجاوز ما يجرى حاليا إلى توقع ما سيحدث فى المستقبل، وحرصت على أن أضع من يقرأها، فى أى زمان وأى مكان، فى صورة ما جرى كاملا، كأنه شارك فى هذا الحدث الكبير أو عايشه عن كثب، بل وطالع بعض الجوانب الخفية التى يمكن أن يصل الفن إلى أعماقها البعيدة، وبما يستحيل على التحليل السياسى أو الرصد الإخبارى أن يبلغه.
وقد ساعدنى على هذا أننى كتبت عن واقع كنت فى قلبه، وأعرف تفاصيله جيدا، وحاولت أن أهضم كل هذا متجاوزا النمطى والسائد والتسجيلى والمباشر، لأرسم لوحة فنية تحتفى بالجمالى وتروم سبر أغوار الفعل البشرى المعقد فى لحظة استثنائية، عبر شخصيات متنوعة خلقت المشهد المهيب، وذلك فى بطولة جماعية تضم مختلف النماذج البشرية التى شاركت فى الثورة.
كان يصغى إلى فى صمت، ثم سألنى فجأة: هل أردت أن تبين حدود الصراع القيمى والنفسى بين التيار الدينى المتزمت والمتطرف الذى صعد على أكتاف الثورة وبين قوى التحديث والتغيير والاستنارة، لتتنبأ بانتصار الفريق الثانى فى نهاية المطاف؟
فأجبته فى هدوء: ليس لدى أدنى شك فى أن هذا سيتحقق، لأن من فى السلطة وأعوانهم فقدوا ثلاثة أشياء من الصعب جدا استرجاعها وهى: الشعبية والشرعية والصورة الإيجابية، فالأولى نزفت، والثانية جرحت، والثالثة شرخت.
فقال: هذا صحيح، لكن: ألا يمكن أن نعبر إلى الأمام دون أن تغوص أقدامنا فى دماء وتتعثر فى جثث مكومة؟ فأجبته: ارفع يديك معى إلى السماء أن تنتصر إرادة الشعب دون ثمن باهظ، وأن يحفظ الله أرواح الجميع.
نقلاً عن جريدة " المصري اليوم "