عمار علي حسن
هنا مقاطع اخترتها من روايتى الطويلة «سقوط الصمت» التى رأت النور قبل 30 يونيو، وحملت نبوءة بنهاية حكم الإخوان وما سيأتى بعدهم، وقد أهديتها إلى: «الفتى النحيل، الذى كان الجوع يأكله حين مدّ رأسه أمام صدرى، ليأخذ رصاصتى عنى، فنجا سابحا فى دمه إلى شاطئ الراحة والخلود، وتركنى أموت كل لحظة من فرط الدهشة والوحشة واللهفة، وأنا ألملم بعض أحلامه وآلامه المنثورة فوق رؤوس ملايين المحتشدين بالميدان الفسيح، وأرشقها على الورق، محاولا أن أرسم بعض معالم الطريق الذى سلكه بخطى ثابتة، وهو يوزع المسرات بيمناه، ويهش الأوجاع بيسراه».
مقطع 1- «رأيت رجلهم الاحتياطى الذى وضعوه على الكرسى الكبير جالسا على الأرض، فوق رأسه لفافة بيضاء، وقدماه مغروستان فى التراب، وبصره ذاهب نحو قرص الشمس المجروح بسكين الغروب. كانت عيناه منبلجتين، بينما هناك فى الخلفية قصر قد انفتحت أبوابه أمام سيل عارم من البشر الغاضبين. ورأيت أجولة من دقيق ملقاة على الأرض تدوسها الأقدام فتنفلق ثم ينفرط أبيضها تحت النعال وهى تتقدم نحو حفل شواء كبير فى البهو الواسع والردهات... كان الناس جائعين، وعيونهم تقدح شررا، راح ينفلت من المقل ويزركش السواد بأحمر فاتح. بعض السواعد كانت تنزف دما، أما الأيدى فقد امتدت تتخطف اللحم المشوى، وترميه فى أفواه وسيعة، وتتعالى غمغمة المحتشدين فى الصفوف الخلفية انتظارا لدورهم فى الوليمة».
مقطع 2- «قتل الليلة حسن عبدالرافع... فرقع رصاص غادر، ومرق دون أن يراه أحد فاستقر فى رأسه وصدره، كما أراد من أطلقوه. قرقعت أقدام هاربة ثم شحطت سيارة، وذابت فى بطن الليل المثقوب بأنوار شحيحة، وتركت خلفها هلعا ووجعا وصمتا مريبا. هرول الناس من الشوارع والحارات والفجاج الجانبية لاهثين فوجدوه صريعا. انتهى ألقه وصخبه، وسكنت أحلامه التى لم تهدأ أبدا، وارتاح منعيون أمثال المخبر شعبان النمر الذى تابعته فى كل مكان بلا هوادة، ومن أصابع البلطجى سباعى الدغل الخشنة، ومن أسئلة حامد عبدالظاهر الذى يدور بكراسته فى ميدان التحرير ليلملم مادة وفيرة لأطروحته الجامعية عما جرى. اختفى جسده من الوجود وبقيت ملامحه مرشوقة على الجدران يحميها رسامو الجرافيتى من أيادى بعض أصحاب اللحى الذين أرادوا أن يطمسوا صورته وسيرته..... كل شىء كان عاديا. كما يموت الناس مات. غير العادى هو بركة الدم التى لمعت فى نور ذابل لقناديل خافتة مغروسة على جانب الشارع، ويده القابضة على ورقة صغيرة، شربت من عرقه حتى ارتوت، وهاتفه الذى راح يرن فى جيب قميصه بإلحاح شديد، ويفرغ صخبه فى آذان الواقفين على الجثة الهامدة، ثم لم يلبث أن خرس، ودق صوت رسالة، تلقاها من الدنيا وهو فى الآخرة».
مقطع 3- «راح ميدان التحرير ينحسر فى عيون الناس، حتى صار بقعة للأسى، بعد أن ظل شهورا طويلة قبلة للحرية. هكذا جرى له بعد أن اختطفه أصحاب اللحى وهتفوا فيه: عاش السلطان، وطالبوا بالبيعة له. وهكذا أراد له جنرالات ساذجون، جلسوا ساعات من نهار حول طاولة فخمة عريضة فى مكان بارد، ينزعون عن الميدان رداءه قطعة قطعة، حتى وقف عاريا بين البنايات الرائعة، التى يسكنها التاريخ. رغم كل هذا يبقى هو ساحة الحرية، وتبقى معالمه الأثيرة المستقرة فى الأذهان والوجدان تطالعها العيون دوما وتستعيد كل ما جرى».
مقطع 4- «نظر شاب إلى شجرة الثورة التى غرسوها فى حديقة وسيعة، ومصمص شفتيه، وتنهد بحرقة، حتى اهتزت أوراقها من لفح الهواء الساخن، ثم قال:
ـ تتساقط أوراق الشجرة تباعا وكأن الخريف قد أتى مبكرا تسوق ريحه الغابرة عصا الخيانة والغدر والشقاق. وكتب حامد عبدالظاهر فى كراسته التى تآكل غلافها: «بيادق تهتز فى مكانها من فرط الغضب، لكنها لا تخطو إلى الأمام. أفيال تستعد للانطلاق فى الفراغ. طوابى مقيدة بسلاسل غليظة. أحصنة تقفز خارج الرقعة فى خطوات غير محسوبة. الوزير فرح بقبض الريح ينتظر من يبتلعه. الملك سادر فى سذاجته، يلهج بتسابيح، طلبا لمزيد من الجاه والثروة، لكن لا يسمعها غيره، لأن قلبه مظلم... ليس العيب فى الرقعة، إنما فى العقول التى تدبر، والأنامل التى تمتد فى هدوء لتقرر مصير القطع الهائمة على وجوهها، لكن آخر وقف فى ميدان التحرير ونظر طويلا إلى الفروع الملفوفة فى الحروف، وقال: تسقط ورقة من شجرة الثورة فتنمو أوراق. يسقط شهيد تحتها فيصير كتيبة من المناضلين. تنكسر موجة فتتدفق موجات. يسقط حلم عابر فتنبت آمال مجنحة. يختطف المستبدون ميدانا فتولد ميادين. يقتلون حسن عبدالرافع فيولد لهم ألف حسن جديد».
نقلًا عن جريدة "المصري اليوم"