توقيت القاهرة المحلي 16:22:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لغة أكاديمية مفهومة (1-2)

  مصر اليوم -

لغة أكاديمية مفهومة 12

عمار علي حسن

من الأمور التى ترد على خاطرى دوما، ذلك الحديث السريع والخافت الذى أدرته ذات مرة مع بعض أساتذتى عن نفور القراء والمقبلين على المعرفة من مصطلحات الأكاديميين ولغتهم التى ينسجون منها عبارات جافة بلا روح، أو مستغلقة على الأفهام. تساءلت يومها تساؤل تلميذ يريد أن يعرف لا أن يفرض رأيا أو توجها، أو يبدى تبرما من مسلك ما فى طرح الأفكار وتناول المعارف الإنسانية، وكان الرد موجزا وقاطعا من أغلبهم ودار جله حول ضرورة أن تكون لدينا لغة للبحث الأكاديمى، تختلف عن الكتابات الأخرى التى تفتقد إلى التحديد والصرامة التى يوجبهما العلم، ويجود بها علينا الكتاب الصحفيون والأدباء ومن لف لفهم، حيث تختلط لدى الأغلبية منهم المفاهيم والمعانى وترتبك إلى أقصى حد، وأبعد مدى، وتقع أحيانا خارج التفكير العلمى، الذى له شروط يتعارف عليها العلماء فى مشارق الأرض ومغاربها. واستقبلت هذا الرأى باحترام يتناسب مع تقديرى لمن أدلوا به، لكن ظل فى نفسى شىء من عدم الارتياح له، راح ينمو بمرور الأيام وتوالى القراءات، حيث وجدت أن كثيرا من الكتب التى أحدثت نقلة فى حياة البشر، ونهضة فى تاريخ الإنسانية، وتركت علامات قوية لا يمحوها الزمن، وظلت حية يتم تداولها رغم تقدم الزمان وتبدل الأمكنة، كانت مكتوبة بلغة فياضة، تشد النفس، وتوقظ المشاعر، فى حين تحفر فى العقل معانى ومفاهيم وقيما عميقة. وكلما أوغلت راحلا فى صفحات هذه الكتب، ثار داخلى سؤال آخر حول جدوى أن تكون العلوم الإنسانية بلا إنسانية. أى لا تتعامل مع الإنسان بوصفه روحا ومادة يزاوج بين العقل والمشاعر، ويحمل بين جنبيه إرادة الاختيار وملكة التذوق. وراح هذا التصور يكبر فى نفسى رويدا رويدا حتى استقر فى يقينى وبات اقتناعا راسخا، لا يحلق فى فراغ، إنما ينبنى على عدة معايير قابلة للزيادة، سواء لدىّ أو لدى كل من يميل إلى هذا الرأى، أولها أن طبيعة الأمور واستقامتها تفرض على الجامعات فى كل مكان أن تشتبك مع قضايا المجتمع، ليس لتحقيق ما على عاتقها من دور تنموى فحسب، بل أيضاً لتعزيز قدراتها العلمية بتجديد مناهجها ونظرياتها. فالنظريات الكبرى فى العلوم الإنسانية انبثقت من الإمعان والتدقيق فى سلوكيات البشر وحركاتهم وتصرفاتهم وأشواقهم وأحلامهم التى يزخر بها الواقع المعيش. وثانيها أن الظواهر الإنسانية متشابكة إلى أقصى حد، ولا يمكن الوقوف عليها وقوفا صحيحا إلا إذا تم تحليلها إلى عناصرها الأولية، أو تفكيكها إلى ما تنطوى عليه من مكونات سواء أساسية أم ثانوية. ومن بين هذه العناصر والمكونات ما يتعلق بالجانب الروحى، الذى يفيض بالمعتقدات والمشاعر والإيمان بالرموز، وهذا الشق الإنسانى لا يمكن التعبير عنه بلغة جافة تفتقد الحس وتفتقر إلى البساطة والوضوح. أما ثالثها فإن القارئ يتفاعل مع أى «نص» أو «مكتوب» ويفهمه ليس كما يريد صاحبه بالضبط، بل أيضاً حسب ما تجود به ثقافة هذا القارئ وميوله وخلفيته التعليمية والطبقية والدينية، بحيث ينتج هو نصه الخاص على هامش النص الأصلى. وهذا يجعل لدينا فى نهاية المطاف نصوصا أو أشباهها بعدد من قرأوا ما هو مكتوب. وبالتالى فإن الحديث عن صرامة لغوية فى البحوث والدراسات الإنسانية أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فمهما كانت هناك تدابير يتبعها الباحثون كى تخرج العبارات دقيقة لتصف الحالة أو الظاهر كما ينبغى لها، فإن هذا لن يمنع القارئ من تلقى هذا الوصف بالطريقة التى تحلو له، ويتسع هذا التلقى وتزيد مساحة التأويل والتفسير والتخمين والتكهن كلما كان النص معقدا وجافا. والرابع هو أن التعقيد لا يعنى بالضرورة الضبط العلمى، كما أن سهولة العرض لا تعنى فى الوقت ذاته الخروج عن مسار العلم ومقتضياته. كل ما فى الأمر أن الباحث مطالب بألا يستعمل لغة عامة «حمالة أوجه» أو عبارات إنشائية غارقة فى البلاغة إلى الدرجة التى تلفت فيه الانتباه لذاتها، وتصبح الكتابة لديه مجرد تشكيل جمالى للغة، لأن هذه هى مهمة الأدب وفنونه عموما وليس العلم. وما هو مطلوب هنا أن تكون اللغة جلية ورشيقة ومنضبطة فى آن، بحيث تعبر عن صميم الظاهرة، وترسم ملامحها بدقة، لكنها لا تنفر القارئ منها، ولا تجعله يشعر أن الباحث والدارس قد كتب ما كتبه لنفسه أو حفنة صغيرة من زملائه الأكاديميين داخل أسوار المعاهد والجامعات. (ونكمل غدا إن شاء الله تعالى) نقلاً عن "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لغة أكاديمية مفهومة 12 لغة أكاديمية مفهومة 12



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon