عمار علي حسن
تلقيت سؤالاً يقول: ما رأيك فيما يطالب به البعض من حرمان الأميين من التصويت فى الانتخابات؟ فأجبته على الفور: عن أى أمية تتحدث؟ الأبجدية أم الثقافية أم السياسية؟ إن كنت تتحدث عن الأولى فيوجد متعلمون جهلاء بالسياسة، وهناك أميون أفقه وأوعى منهم بها. وإن كنت تقصد الثانية، فعلينا أن نحرم الأغلبية الكاسحة من حق التصويت بمن فيهم رؤساء أحزاب سياسية يثرثرون ليل نهار ويسعون وراء منافعهم الذاتية بلا ككل ولا ملل. وإن كنت تقصد الأمية السياسية، فعليك أن تسأل «السادة المرشحين» ورجال الأحزاب الذين لا يقومون بدورهم فى توعية الناس، ولا يشغلهم سوى خطف الكراسى الموسمية، ثم الجلوس فى فنادق العاصمة.
إن هذه الدعوة، فضلاً عما تحمله من تمييز على نوع جديد، فإنها تقوم على افتراض خاطئ، مفاده أن «كل أمى جاهل بالسياسة وكل متعلم عارف بها»، فقد رأيت فى قريتى والقرى المجاورة إبان معية الصبا أميين منشغلين بالشأن العام أكثر من متعلمين بكثير، والآن قبل ثورة يناير وبعدها عاينت هذا فى لقاءات ومؤتمرات وندوات عقدتها أو شاركت فيها بقرى مصرية فى الدلتا والصعيد والمناطق الشعبية فى المدن. وقد لا يكون الفرق بين من «يفك الخط» ومن لا يفكه أن الأول يستطيع أن يعبّر عن رأيه كتابةً، أو بلغة منتظمة ومنمقة أحياناً، لكنه البلاغة النسبية لا تعنى بالضرورة حيازة الصواب أو المعرفة. فأكثر من يفخّمون الحروف يدارون جهلهم، أو يثيرون ضجيجاً، لا فحوى فيه ولا محتوى. وكثيراً ما قدّم «الموروث الشعبى» معارف ومعانى وقيماً عميقة تناظر تلك التى تبشر بها النخب الفكرية والثقافية.
إن هؤلاء الفلاحين هم الذين كانوا يصوّتون لحزب الوفد القديم، لأنه حزب الأمة، ولا يعنيهم اسم المرشح الوفدى الذى يعطونه أصواتهم، وهم الذين كانوا يسيرون وراء شعار «لو رشح الوفد حجراً لانتخبناه». وسيقول قائل: لكنهم هم أنفسهم الذين ضحك عليهم منافس أحمد لطفى السيد فى الانتخابات حين وصفه لهم بأنه رجل ديمقراطى، وحين سألوه عن معنى هذا قال لهم: يبيح لزوجة كل منكم أن تعاشر رجلاً غير زوجها، فما كان منهم إلا أن أسقطوه بشكل مروّع. وسأرد على هذا: ولماذا لم يبذل لطفى السيد جهداً كافياً ليشرح للناس معنى «ديمقراطى» وإذا كان قد عقد النية على النزول من عليائه كمفكر كبير والهبوط إلى الشارع مرشحاً فى الانتخابات، فلماذا لم يبذل جهداً فى البداية ليُعطى الأميين جرعات مبسطة فى الفكر والسياسة، وهو يدرك ما قاله الخواجة الفرنسى فى رواية توفيق الحكيم الخالدة «عودة الروح» عن الفلاح المصرى الأمى: تسكن تحت جلده سبعة آلاف سنة من الحضارة.
كما أن من يطالبون بحرمان الأميين من التصويت ينسون أن الإعلام بات يلعب دوراً كبيراً فى تثقيف الناس، بعد أن أصبح كل فرد بوسعه الآن أن يجلس لينصت إلى ما يقوله الساسة والمثقفون فى برامج «التوك شو»، وعليهم أن يطلبوا من الإعلاميين أن يثقّفوا أنفسهم سياسياً بالقدر الكافى ويطالبون أصحاب القنوات الفضائية بأن يؤدوا ما عليهم من واجب حيال تثقيف الناس عبر برامج جادة بدلاً من الجرى وراء الحسابات الخاصة الضيقة والمكاسب المادية العابرة التى تؤمّنها البرامج التافهة وبعضها فى قنوات يملكها رجال أحزاب كبار، والأولى أن يطلبوا هذا من تليفزيون الدولة وإذاعاتها التى يشارك هؤلاء الأميون فى تمويلها من عرقهم وكدحهم.
لكن الأهم من هذا كله أن ينزل الحزبيون والنشطاء السياسيون والثوريون إلى القرى والنجوع والكفور والعزب والشوارع الخلفية، وأن تشاركهم قوى المجتمع المدنى، ومؤسسات الدولة المعنية بإنتاج الخطاب السياسى والثقافى والدينى، ليأخذوا بأيدى الناس، فيعى من هو غافل، ويزداد وعياً من هو على أول الطريق. وعلى الدولة الآن، وليس غداً، أن تنفّذ خطة متكاملة لمحو الأمية، الأبجدية والثقافية والسياسية، بدلاً من إلقاء التهمة على عموم الناس والمطالبة بحرمانهم من مباشرة حقوقهم السياسية، وعليها أيضاً أن تقيم العدل الاجتماعى، فلا تترك هؤلاء فريسة لمن يصطادون أصواتهم أيام الانتخابات مستغلين عوزهم وحرمانهم.
نقلاً عن "الوطن"