عمار علي حسن
نعش شريد طائر يمرق بين بيوت الطمى فى قرية نائية، تحدب عليه زمر من أناس أوجعهم البكاء الحرور. يحوى قطعاً من لحم مختلفة الأحجام ترفرف عليها طليقة. تغوص الروح فى زحام الوجوه لتلتقط وجه «محمد»، صبى ترفل فى مقتبل الشباب أنت. تسح دموعك على خديك مدراراً، لكنك تكبت قروحك وتعض على أضراسك مغمغماً:
- سأثأر لك يا أخى..
واقتربت الروح منك وهمست فى أذنيك مؤيدة على قولك:
- إياك أن تنكسر..
وتحت السدرة العتيقة تباطأ النعش وتشبث بالظل، وها هى أيامنا الأولى تفرش حكاياها يا «محمد». حبات الذرة الطرية وكفك الغضة، وأهازيجك المغردة. طعم ولحن لا يموتان يا «محمد» رغم دوران الأيام. تدور فيصير جسدى تراباً فى تراب. جسدك أنت ترويه الدموع وتسقيه ماءها المملح فيشتد ويستوى على ساقيك.. أجيئك فى الأحلام وفى الذكريات وأهمس لك فى صحوك:
- إياك أن تنكسر..
- إياك أن تنكسر..
قلتها زاعقة حماسية حين وجدتك يا «محمد» ترتدى الزى العسكرى. ألبستك كل ما كنت تنوى أن ترتديه: الأفرول والبيادة. صحبتك وأنت تؤدى طابور العبور فى ترعة المحمودية. خرجت لك من لجاج المياه، من بين الثلج الأبيض المحيط بالمناطيد العابرة للضفة الأخرى. ومنطادك يمرق كالسهم، كنوارس شعبان المغربية ملت نحوك:
- لا تنسَ..
فقلت لى فى ثقة متناهية:
- لم أنسَ قط..
ذات ليل دامس كنت أدور فوق الصحراء. تناهت إلى سمعى أصوات مختلطة.. دبيب أرجل.. شخير عربات.. زمجرة دبابات.. قرقعة أسلحة تجهز.. كركبة مدافع تتقدم فى حذر.. ذرات الغبار تبدو فى ألسنة ضوء تبرق على فترات متباعدة عبر أماكن لا متناهية، وكل شىء كان يتم فى صمت.
كل الوجوه يعلوها الترقب. فى عز الظهر أقلعت الطائرات وحطم أزيزها سكون الصحراء.. نبضت القلوب وارتفع نبضها فى حناجر مكبرة، وتدافعت الأجساد تعبر إلى الخلاص.
لهب فى لهب.. هالات من النار والنور، وأرض امتلأت بالجنود. آلاف المناطيد كخلايا تنبض فى شريان القناة. طائرات العدو تأتى كالنوارس فترديها المدافع والصواريخ كالذباب.
ها هو الحلم تحقق يا «شعبان»: «تم تدمير كل طائرات العدو».
تسقط مهدلة الأجنحة فيجرى الجنود إليها كأنها لعبة فى أيدى أطفال أشقياء. يرمون بها ويتقاذفون محتوياتها ويكبرون.. ويكبرون.
الأرض تبرح وترشف نبض الفاتحين، وتسقيهم حلاوة الانتصار، فتتسابق الأرواح نحو الضفة الأخرى.
وسط العجيج والضجيج ثمة وجه لطفل صغير، راح يولد من خصاص الرمل وحشف الصخر، ويتهادى فى بحر الصفار.
نصفان يتقاربان ويأتيان على مهل. أمعنت النظر والعين مثبتة فى اتجاه الوجه فإذا بلؤلؤ الثنايا يبرق، وحرير الرأس يهفهف فى ريح النصر. يلتئم النصفان ويصيران واحداً. هو وجهك منذ سنين تماماً.. . تماماً يا «محمد».
نقلاً عن "الوطن"