عمار علي حسن
يجب أن نعرف ما كان يفعله الأمن فى جامعاتنا أيام «مبارك» حتى نفهم لماذا يرفض كثير من الأساتذة عودة «الحرس الجامعى» ردا على الترويع والتخريب والبلطجة التى يقوم بها طلبة «الإخوان»؛ فبعد عقود من قول طه حسين: «لا ينبغى أن ننتظر تعليما صحيحا منتجا من جامعة لا يتمتع رجالها بالاستقلال والحرية»، صدر بيان احتجاجى للأساتذة المصريين عام 2005 يقول: «الجامعات المصرية محتلة من قِبل وزارة الداخلية، وجهودنا ستتواصل لتحريرها»، وما بين قول طه حسين وما تضمنه هذا البيان ظهرت شواهد لا تنتهى من إهدار استقلال الجامعات المصرية؛ حيث لم تنجُ من حالة التمويت السياسى المنظم، بل إن هذه الجامعات كانت فى قلب المؤسسات المستهدفة لعملية مدبرة، رمت إلى إخراج قوى اجتماعية مدنية عدة من متن الفاعلية إلى هامش عريض من الصمت والفراغ، لتزداد وطأة الركود السياسى، بمختلف أشكاله، من السلبية وغياب المشاركة والاستسلام للأمر الواقع واللامبالاة والميل إلى الحلول الفردية والرضا بما تجود به السلطة المستبدة، مهما كان قليلا، وحتى لو كانت طريقة منحه مهينة للكرامة الإنسانية ولحقوق المواطنة.
والجامعات، التى كانت معملاً لتفريخ الطاقات الفكرية والسياسية لمصر، تحولت فى عصر «مبارك» إلى مجرد مدارس أولية لحشو الذاكرة بمعلومات ناقصة، بينما راحت أجهزة الأمن ترتب يوميات الجامعات، وتدس أنفها فى تفاصيل كثيرة، دون سند من قانون، وفى تدمير منهجى لأحد الأدوار المهمة التى تمارسها الجامعات فى مختلف أنحاء العالم؛ فالأمن فى بعض الجامعات تدخل فى تعيين أعضاء هيئات التدريس، بدءاً من المعيدين وانتهاءً برؤساء الجامعات، ويحد من حرية الحياة الأكاديمية، بتضييقه الخناق على أساتذة بعينهم يطلقون أفكاراً لا تروق للأنظمة الحاكمة، واشتراطه أن يطلع على أى اتفاقيات علمية أو أبحاث مشتركة مع جامعات أو جهات أجنبية، أو أى مُحاضر زائر من الخارج، بل تدخل أحيانا فى وضع المناهج الدراسية وتوزيع المحاضرات، وحتى رحلات الترفيه التى تنظمها بعض الأسر الجامعية. وتطور هذا التدخل إلى حد الاعتداء البدنى على أساتذة واعتقالهم.
وكل هذا يشهد بأن تمويت السياسة فى مصر، أيام «مبارك»، لم يقتصر على الحركة الطلابية، إنما امتد إلى الأساتذة، وسلاح السلطة فى هذا جهاز أمن، لا يقدر أن الجامعات، المتحفظ عليها والموضوعة رهن الإقامة الجبرية والمحبوسة على ذمة الإبعاد عن ممارسة السياسة ومشتقاتها، لا يمكنها أن تؤدى واجبها على أى نحو. والخاسر الأكبر فى هذا هو مستقبل مصر العظيمة، الذى ظل مرهونا طيلة ثلاثين سنة من حكم «مبارك» لحساب حاضر تعيس.
كما كان تقديم «الأمنى» على «العلمى» فى جامعاتنا وقتها، وإعلاء «الولاء» للنظام على مبدأ «الاستحقاق والجدارة»، أو تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة والدراية، قد أدى إلى تدهور مستوى التعليم الجامعى، حتى إن التقارير التى كانت تشمل أفضل خمسمائة جامعة فى العالم قد خلت من أى جامعة مصرية، بينما شملت جامعات فى أفريقيا وآسيا، كثير منها أحدث من جامعاتنا. وأمام هذا الوضع المخزى هاجر أصحاب العقول المتميزة إلى الخارج بحثاً عن الجدوى والكرامة.
وبالطبع، فإن بعض أعضاء هيئات التدريس لم يقابلوا سطوة الأمن على الجامعات بترحابٍ أو سكوتٍ، إنما ناهضوها بطرق عدة، لكن هؤلاء كانوا قلة وسط القطيع الصامت، وحركتهم افتقدت قوة دفع حشد يكافئ ما يتعرضون له من انتهاكات، وما يقاسونه من تدخلات أمنية سافرة، حولت بعض الجامعات إلى سجن كبير.
هذه الخلفية هى التى تحكم رفض أساتذة لعودة الحرس الجامعى، خوفاً من أن تمتد أيدى الأمن، بحكم مواجهة إرهاب «الإخوان» وإجرام طلابهم، إلى التحكم فى سير العملية التعليمية مثلما كان سائدا أيام «مبارك»، وهو ما دفعنا ثمنه باهظا حين فقدت الجامعات استقلالها الإدارى وحريتها الأكاديمية التى يجب ألا تخضع لسلطان سوى سلطان العلم. لكل هذا يجب التفكير فى طرق مختلفة لتأمين الجامعات من عبث «الإخوان» دون رميها فى قبضة أجهزة الأمن على النحو الذى كان سائدا قبل ثورة يناير.
نقلاً عن "الوطن"