توقيت القاهرة المحلي 19:36:09 آخر تحديث
  مصر اليوم -

.. ومن يومها صارت مجلتى!

  مصر اليوم -

 ومن يومها صارت مجلتى

عمار علي حسن

كانت شمس العصر الكسيرة تترنح على اللافتة الزجاجية للمقهى المواجه لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، فتسكب نضارها على غلاف مجلة ملون تطوقه يدان سمراوان، صاحبهما يدس رأسه بين دفتيها وشفتاه مضمومتان فى حزم، وعيناه تأكلان السطور. ملت برأسى لأرى ما الذى يجذب صاحبنا كل هذا الانجذاب الذى كاد يفصله عن كل ما يحيط به، فوجدت على الغلاف كلمة «العربى» عريضة بارزة. وكانت هذه هى المرة الأولى التى أرى فيها مجلة «العربى»، وكنت أنهى الأسبوع الأول لحياتى الجامعية، ومن يومها صارت مجلتى. ضممتها إلى «الهلال»، وعرفت بعدهما مجلتى «الدوحة» و«الأمة» قبل أن أذهب إلى دوريات راسخة فى العلوم الإنسانية، فشغفت بها جميعا، إلى درجة أن مطبوعاتها الشهرية لم تكن تكفينى، فكنت أذهب إلى «سور الأزبكية» وسط القاهرة؛ حيث بائعى الكتب القديمة، لأتزود بالأعداد الفائتة، فغصت مع «العربى» إلى السبعينات والستينات، وانتقلت من أيام محمد الرميحى إلى زمن أحمد زكى وأحمد بهاء الدين. كانت هذه المجلات، بالنسبة لى، الزهور الناضرة التى تدلنى على البساتين العامرة بكل ما لذ وطاب من المعرفة. فما إن أطالع فكرة مختصرة، أو أُستدل على كتاب معروض أو رواية مرت معانيها المجملة من بين أيدى ناقد، أو ترجمة لشخصية ثرية فى دنيا العلم والفكر، حتى أجرى إلى مكتبة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التى أنتمى إليها والمكتبة الأم للجامعة وسور الأزبكية، لأسأل عن هذا المؤلف وذاك الكتاب، فأعود أكثر فهما ودراية وانشغالا. ولأن هذه المجلات كانت شاملة، وبها من قطوف الآداب وألوان العلوم ما استدار واكتمل على أحدث هيئاته وأفضلها فى اللحظة التى تدفع المطابع بها إلى أسواق القراءة والمطالعة، فإنها قادتنى إلى الاهتمام بأحدث ما تنتجه قرائح البشر فى مشارق الأرض ومغاربها، وعلمتنى أن أحقق ما طلبه نجيب محفوظ من تلاميذه أن يقرأوا بلا حدود وفى أى اتجاه، وبذلك أسهمت «العربى» وأخواتها فى تكوينى، وإليها أرد دوما الفضل فى الدخول إلى دنيا الفكر الرحيبة الرهيبة، التى أحتاج إلى قدر عمرى مائة مرة لأقف على بعضها وقوفا واثقا ثابتا. وأحيانا إذا سبح بى الشرود فنكصت إلى اللحظات الحميمة فى سنوات عمرى الذى شارف على السادسة والأربعين، أجد لمجلة «العربى» مكانها؛ فكثيرا ما كانت صديقتى فى ساعات الليل الهادئة، تحادثنى فى قرية غافية هجع أهلها الطيبون إلى مخادعهم البسيطة بُعيد العشاء، وتركونى لمصباح الكيروسين الواهن ولمجلتى الزاهية. وإذا قلبت بعض صفحات مؤلفاتى التى اقتربت من الثلاثين لأقف على البذور الأولى العفية التى نثرتها فى كل هذه السطور المتلاحقة، فأجد «العربى» حاضرة، كممر سلكته فى يسر لأصل إلى كل هذا الوادى الفسيح، الرافل بأشجار المعرفة الباسقة. ولما رزقنى الله بذرية، أدعوه أن تكون صالحة حتى النهاية، ألحقتهم بمدرسة «العربى الصغير» و«العربى العلمى»، يردون إليها مطلع كل شهر، وينتظرون ورودها بشوق ولهفة لا تخفى على أى أحد حتى لو كان لا يمتلك عينا بصيرة ولا عقلا فهيما. نسخة واحدة يتخطفونها، ولولا رغبتى فى أن أعلمهم أن يتقاسموا الخبز والسرير والكتب والأحلام لاشتريت نسختين أو أكثر. وأقول باسماً وأنا أرى الواحد منهم يلتهم سطور مجلته الصغيرة: غدا سيصير زبوناً لمجلة رافقت أباه عقوداً أطول من عمره، ويعتزم أن ترافقه حتى الغمضة الأخيرة. وحين احتفلت «العربى» بمرور خمسين سنة على انطلاقها، استعادت فتاة غلافها وهى تمر بسلام على درب شيخوختها من دون أن تفقد براءة الطلة ولا ألق العينين وسماحة الملامح، أما أنا فكلما اشتريت عددا جديدا من «العربى» أستعيد الشاب الأسمر الذى رأيتها فى يده للمرة الأولى فى حياتى. أستحضر شفتيه المزمومتين فى حزم يليق بقراءة موضوع مهم، وأستعير عزلته عن الشارع الصاخب وصوت النادل وقرقعة الزهر وقرقرة النراجيل فأنزوى فى ركن حجرتى أو على أطراف حقلى أو فى المقعد الأخير للأتوبيس المزدحم أو فى آخر خيمة منصوبة على شاطئ الإسكندرية لأختلى إلى «العربى». وكثيرا ما أسأل نفسى حين أصل إلى الصفحة الأخيرة من كل عدد أقرأه من مجلة «العربى»: هل يمتد بى العمر حتى أرى العدد رقم «ألف»؟ وفى زحمة التساؤل تملأ الدموع عينى، فتبتلعها ابتسامة خاطفة لشفتين تقولان فى اطمئنان: ربما أكون وقتها شيخا يتوكأ على عصاه وعقله الذى شاركت «العربى» فى صنعه، أو خبرا وأثرا قد يقول بعض الناس: لقد مر من هنا يوماً وفى يده مجلة ذات غلاف مصقول لامع. نقلاً عن "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 ومن يومها صارت مجلتى  ومن يومها صارت مجلتى



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:30 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد فراج يكشف تفاصيل مسلسله في رمضان
  مصر اليوم - محمد فراج يكشف تفاصيل مسلسله في رمضان

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 08:54 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الهلال⁩ السعودي يتجاوز مانشستر يونايتد في تصنيف أندية العالم

GMT 20:52 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ليوناردو دي كابريو يحتفل بعامه الـ50 بحضور النجوم

GMT 19:17 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يدعم أيمن العلي ملك جمال الأردن

GMT 05:23 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

تناول المكسرات يوميًا يخفض خطر الإصابة بالخرف

GMT 18:09 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بانكوك وجهة سياحية أوروبية تجمع بين الثقافة والترفيه

GMT 06:54 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 11 نوفمبر /تشرين الثاني 2024
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon