عمار علي حسن
لتُرفع الأقلام، وتُطفأ الشاشات، وتخرس الإذاعات، ويخسأ رواد الخصخصة وسارقو الثورات، ويأكل المحتكرون والفاسدون جمراً وحنظلاً، ويبتلع تجار الدين ألسنتهم، فجهنم انتقلت إلى الأرض، بعد أن صار هناك فى الأزقة والمسارب الخلفية عشرات الملايين يأكلهم الجوع، ويرعى فى أجسادهم المرض، وتغرب فى عيونهم إشراقة الأمل، ويرفرف الموت على هاماتهم التى أذلّتها المدن المتوحشة، والسلطات الظالمة أو الغافلة، وأصحاب البطون التى لا تشبع، وكل أولئك الذين لا يريدون أن يفهموا إلى الآن أن الثورة طالبت بالعدل الاجتماعى وإلا فانتظروا الانفجار المخيف.
جهنم انتقلت إلى الأرض، ونارها التى لا تُبقى ولا تذر تحرق أحلام التائهين فى الحوارى العشوائية، وأقبية القبور، والأكواخ النائمة فى حضن الصخر الصوان التى تتقاطر عليها مياه المخلفات وجيوش الحصى المسنون المبلل، والحجرات المقبضة العطنة الراقدة فوق أجساد أنهكها اليأس، وأحزمة البيوت المتداعية المتآكلة الآيلة للفناء الأبدى، الممتدة كدود أعمى عفن، تدوسه أقدام الخارجين من القصور المنيفة، والبيوت التى يغمرها البطر وتغشيها القسوة، وتفوح من نوافذها رائحة الفساد المعتق.
جهنم حطت على الأرض رحالها، وإن أردت أن تعرف فاسلك الطريق الذى سلكته أنا، انزل من بيتك، وامرق كسهم من الشوارع المغسولة التى تعرفها جيداً، وخلِّ ظهرك للبنايات الشاهقة، وسرْ وأنت مغمض العينين، فكل شىء فيها وتحتها ربما أنت رأيته آلاف المرات، ثم افتح جفنيك واندهش، ولا تجعل الفجيعة والوجيعة تثقلان قدميك، أو تخلعان فؤادك من صدرك فتهرب بجلدك، وترضى من الغنيمة بالإياب، بل اثبت مكانك، واصرخ بملء فيك: «بضدّها تتميز الأشياء».
جهنم هنا قبل أوانها ومكانها وسيرتها ومسارها، ففى الأحياء العشوائية، التى أمرّ بها متمهلاً، لأختبر ما سمعت وقرأت، وجدت الحقيقة أكثر مرارة من الخيال، وآمنت بأن من رأى ليس كمن سمع، وأن ساعة واحدة مع سكان عزب «أولاد علام، وخير الله، وأبورجيلة والترجمان واسطبل عنتر» وغيرها، ستنبئك بما لم تحط به خبراً من قراءة دراسات علم الاجتماع، ونصوص الروايات، ومشاهدة الأفلام التى تصف حياة الحرافيش والمهمشين والمعدمين، والتى لا تستطيع مهما احتشدت سطورها بالمعانى ومشاهدها بالتصورات أن ترسم ملامح هذا العذاب المتوحش الذى يقتل فى بطء ملايين الناس، ممن ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وجعلهم الله شركاء فى الماء والكلأ والنار، وقال الفقهاء الثقات إن لهم على الحاكم حد الكفاية من غذاء وماء ودواء وكساء وإيواء وترويح.
وقاطنو جهنم الأرض فقراء زحفوا من بلاد وديعة مجهدة، لا شىء فيها سوى الريح الزاعقة، وكلمات متناثرة تذوب فى الهواء لحديث المسئولين الكاذب عن «الحد الأدنى والأقصى للأجور» وجاءوا إلى هنا، حيث قاهرة أعداء المعز، فتحول كثيرون منهم تدريجياً إلى لصوص ومروجى مخدرات، وأطفال نصف عرايا، وشيوخ مرضى، وطيور تحط على مخلفات الجزء المغسول من المدينة، فتلتقط بمناقيرها المرتخية من الإعياء ما تبقى منه، وأزقة مرشوقة بالحفر، ووجوه مملوءة بالبثور، وبيوت من لحم، عشرة فى غرفة واحدة متداعية، خمسون فى بيت قديم ضيق من طابقين مترنحين، مائة يهرعون إلى دورة مياه واحدة، أو بمعنى أدق «كنيف» واحد، لا يزيد على جردل صغير يرقد ذليلاً بين أربع أحجار كبيرة مستوية، ينام عليها لوحان من خشب تآكلت أطرافهما.
وهنا أيضاً تليفزيونات وإذاعات بعضها يتحدث عن «البنية الأساسية» أو «التحتية» حسبما شئت التى زعموا اكتمالها قبل ثورة يناير، وبعضها يتحدث عن نعمة الفقر التى تمهد الطريق إلى جنة الخلد، وتطلب من المعدومين ألا يفعلوا سوى انتظار الموت والنعيم الذى يأتى بعده. كلمات يطلقها شيوخ طويلو اللحى يسكنون الفيلات الفاخرة، ويركبون السيارات الفارهة، ويأكلون ما لذّ وطاب من الطعام، ويتاجرون بأحلام الناس وأشواقهم، فتنتفخ جيوبهم ورماً، وبطونهم شبعاً.
إنها نار فى نار. نار وقودها الناس والحجارة. الناس الموتى وهم أحياء، والحجارة التى تسقط من أعلى المقطم. فيا أيها الحكام المستبدون، أيها المحتكرون المستغلون، أيها الشيوخ الكاذبون، قولوا مرة إن ما استمتع غنى إلا بما أخذ من فقير، وإن المهزلة التى تقع على أطراف المدينة المتوحشة وفى قلبها ستحرق الجميع، وإن الجنة ليست فى أيديكم أنتم، ولا على أطراف ألسنتكم، وإن الإنسان الذى كرّمه خالق الكون على العالمين يجب أن يعيش فى الدنيا حياة كريمة، تليق بكونه خليفة الله فى أرضه. وإن دوركم يا شيوخ الفضائيات والأحزاب الزاحفة نحو السلطة هو الانتصار للناس، فالدين ثورة على الظلم والاستغلال والاستغفال، وخروج على عبادة أى شىء وأى شخص من دون الله تعالى.
أما أنتم أيها السادرون فى غيكم، المتغافلون عن واجبكم، الذين لا تزال عيونكم وقلوبكم موجهة إلى «بيفرلى هيلز» و«مدينتى» ومنتجعات شرم الشيخ والعين السخنة ومارينا، اعلموا أن كل شىء فى بلادنا بات قابلاً للاشتعال؛ فجهنم التى تستعر فى المسارب الخلفية، والأزقة العشوائية، لا يوجد ما يمنعها من أن تمد ألسنة اللهب حولها، وقد تحمل ريح الجوع والحرمان شررها إلى ما هو أبعد من البيوت الواطئة المنكسة رؤوسها، لتحرق الأبراج الشاهقة، وتردم الشوارع المغسولة بالرماد والأشلاء والدم والندم، فأنصتوا قليلاً إلى صوت الثوار وهم يقولون لكم ناصحين أو منبهين أو مطالبين: العدل العدل.
نقلاً عن "الوطن"