عمار علي حسن
منذ أن أبدع أناتول فرانس روايته ذائعة الصيت «تاييس» عن حكاية غانية الإسكندرية القديمة التى أفسدت كل شبابها فسعى القديس بافنوس لهدايتها حتى لا تفسد عليه عمله، وكثير من الأدباء يحلو لهم أن يهتكوا أسرار العالم البتولى المغلق للرهبان والكهنة، محاولين الإجابة عن تساؤلات تشتعل دوما فى أذهان الكثيرين عن حال هذا العالم ومآله، لا سيّما ما يتعلق بالصراع النفسى والقيمى بين «الهداية» و«الغواية» أو بين «العفة» و«الشهوة»، الذى طالما فتح نوافذ عريضة لإبداع أعمال فنية جذابة.
على هذا المنوال، نسج روبير الفارس روايته الأخيرة «جومر»، التى لا تعطى نفسها لقارئها بسهولة؛ إذ إن ما فيها من اقتباس واقتطاف من مختلف النصوص المسيحية والموروث الشعبى المصرى، وما بها من صور جمالية مكثفة ولغة شاعرية مقتصدة وغموض ملغز وتركيب وبناء متماوج، يتطلب ممن يطالعها أن يكون فى يقظة تامة طيلة الوقت، حتى يفك شفراتها المتتابعة، ويفضح المسكوت عنه فى ثنايا سطورها، وإلا فاته الكثير من الفهم والتذوق.
لا ينشغل الفارس بالتشويق قدر انشغاله بالتجريب وبناء اللوحات الفنية المتلاحقة، التى تطول أحيانا وتقصر أحيانا، لكنها تتقدم نحو هدف يرومه كاتب ينتقل من خبرة القصة القصيرة، التى أتقنها وفق ما تبرهن عليه مجموعته القصصية المعنونة بـ«عيب إحنا فى كنيسة»، إلى مجال الرواية الأكثر رحابة واحتياجا لجهد كبير على مستوى الشكل والمضمون، بذل منه على قدر استطاعته فى روايته الأولى «البتول»، وهنا يكمله، فى تقطع وعناء، يكشفه لنا فى الكلمة التى قدم بها «جومر» ويقول فى بعضها: «كنت أسرق الوقت لألتقى بأوراق متفرقة تصرخ من الإهمال الطويل.. تركتها وحيدة مدسوسة فى ظلام مكتبتى وكأنها خطيئة غير مكتملة، وشهوة مبتورة الذراع.. ومن حين إلى آخر أحن إليها، وأبحث عن لحظة دفء فى حضن جومر.. أو يستوقفنى تساؤل مطرود من ذلك العالم المأهول بأشباح التراث القبطى الثقيل، والذى يصارع واقعا ساخنا بين تلك الصفحات التى اكتملت بعد عناء رهيب».
لكن يبقى للكاتب أنه يقتحم بشجاعة موضوعا شائكا، ويطأ بثقة مناطق غير مأهولة ترتبط بالعالم الاجتماعى للأقباط من زاوية علاقتهم بالثقافة العامة السائدة، وبالمؤسسات الدينية بتراتبيتها الإدارية وتسلسلها الروحى، وهو هنا لا يصف ما يرى أو يعرض ما يعرف فحسب أمام قارئ ليس لديه معرفة عميقة بأحوال هذا العالم وأسراره، لكنه ينتقد الموجود، ويحرك الثابت والجامد، ويهز بعض اليقين، مستخدما ما أهدته إليه تجربته الذاتية، ويوظف شخصيات روايته فى تحقيق هذا الهدف، رغم اختلاف خلفياتهم الثقافية والطبقية.
وكما قال القديس بافنوس بعد أن وقع فى غرام الغانية التى ذهب لهدايتها: «أيها الأحمق الباحث عن السعادة الخالدة فى غير شفاه تاييس».. يبدأ روبير الفارس بمفتتح مشابه ينسبه إلى من وصفه بأنه أحد الرهبان القدامى؛ حيث يقول: «ليست أحلامى بعيدة عنى، ولست أبحث عنها تحت هذه الشمس بعينين لحميتين.. الذين يزعمون أن باستطاعتهم أن يجدوا غبطتهم خارجا عنهم، يسيرون نحو الفناء، ويضيعون فى المرئيات والزمنيات التى لا تلمس أفكارهم المتضورة جوعا إلى الصور».
(ونكمل غدا إن شاء الله تعالى).
نقلاً عن "الوطن"