عمار علي حسن
«انت يا واد يا اللى طالع من طين الأرض، يا مصرى أصلى، كل ما أشوفك على الشاشة أبوسها».. هذه العبارة العزيزة على نفسى، والتاج على رأسى، والقيد الذى يلزمنى ويحثنى دوماً على ألا أخذل من يرددها، لن أسمعها بعد اليوم، فقد رحل صاحبها، الذى أطلقت فينا أشعاره روح التحدى، وعلمتنا تجربته أن نعيش الحياة كما نريد، أحراراً كالنسور، وزاهدين كمتصوفة الزمن القديم، وألا نخاف من سلطان أو سجان أو قرصان، وأن نمشى على الأرض هوناً، قابضين على الحروف والجمر.
رحل سفير الفقراء، عمنا الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، واروه الثرى، ودثروه بكلماته وشهقاته وزعقاته وآماله المجنحة، كومة عظم ونسيرات لحم طبخها الزمن على مهل، كانت تحمل بين طبقاتها النحيلة روحاً جسورة، ونفساً أبية، وتصنع رجلاً عاش كما يحلو له، غير عابئ برأى الناس فيه، فكل ما فوق التراب تراب.
لم يكن «نجم» مجرد شاعر موهوب، بل كان تجربة، إنسانية ووطنية وفنية، وكان ظاهرة نضالية، وكان رمزاً لزمن، وعلامة على أجيال، كتب وغنّى رفيقه الشيخ إمام، فتراقص بين الضلوع الأمل، ورفرف العلم، وتعرى السلطان الجائر، ووجد الفقراء والحالمون لأنفسهم مكاناً بين زحام الكلام، وأناشيد محفورة فى الصدور.
84 عاماً كانت كافية لتضع اللمسات الأخيرة على حياة ميت سيعيش، وأوجاع قد آن لها أن تستريح، وقدمين نحيلتين جاء أوان قطافهما، لتتساقط المكابدات ذات اليمين وذات اليسار، فسبع مرات فى السجن وسبعين مرة على عتبات العوز، ولا مرة واحدة على باب الخوف، هكذا كان «نجم»، وسيظل فى ذاكرة كل من قرأوه أو سمعوا شعره يُغنَّى، أو أنصتوا إلى كلماته التى يطلقها من دون تهيب ولا تحسب، رصاصاً ومطراً، فيتساقط الأعداء محسورين، وينبت القمح والرياحين. فى ثورة 25 يناير رددنا كلماته فى الميدان، الذى ظل يحلم بامتلائه منذ السبعينات:
«كل ما تهل البشاير
من يناير
كل عام
يدخل النور الزنازن
يطرد الخوف والظلام».
وكلما ازداد القبح حولنا، وطفح الظلم، وتوحش الفاسدون المستبدون الناهبون الآكلون بلا شبع، فرموا بين أعيننا والوطن ستائر سوداء، استعدنا «نجم»، لنواصل حب مصر العظيمة من جديد:
«كل عين تعشق حليوة
وانتى حلوة فى كل عين».
وصدحنا ورءوسنا تهتز فى فرح ومرح وامتنان وافتتان وإجلال وحب:
«مصر يا أمّه يا بهية
يا أم طرحة وجلابية
الزمان شاب وانتى شابة
هو رايح وانتى جاية».
تتساقط كل يوم نجوم فى السماء، وتسقط أسمــاء فى الأرض. لكن هناك نجماً لن يسقط أبداً، اسمه الأول أحمد، فنحمد الله على كل حال، ونعزى أنفسنا فى رحيل هذا الرجل الكبير، فاللهم ارحمه واغفر له، وأنزله فسيح جناتك.
نقلاً عن "الوطن"