عمار على حسن
عند السابعة من ليلة الغد، ولثلاث ليالٍ متواصلة، ستكون رواية الأديب والكاتب الصحفى الشهير الأستاذ إبراهيم عيسى الأخيرة «مولانا» على موعد مع حدث مختلف، بالنسبة لفن الرواية عموماً، ولمؤلفها خصوصاً، حيث ستقيم «دار الأوبرا» على مسرح الجمهورية عرضاً مسرحياً مأخوذاً عن الرواية، تصاحبه ألوان من الموسيقى الصوفية التى تطير لها القلوب، وتهيم بها النفوس، وينعم بها الوجدان.
ربما تنطلق المسرحية من الرواية خالقة «نصها» الخاص، أو تصورها الجديد، وفق الضرورة الفنية تارة، أو حسب ما يراه القائمون على «فرقة الرقص المسرحى الحديث» التى يقودها المخرج مناضل عنتر. وسيكون المؤلف فى كل الأحوال مسئولاً عن نصه الأساسى، وهو تقليد رسّخه فى حياتنا الأدبية معلمنا الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، حين كان يقول: «أنا مسئول عما كتبت لا عما رآه كتّاب السيناريو أو صوره المخرجون السينمائيون»، وهو موقف طالما عارضه أمير القصة القصيرة العربية يوسف إدريس، الذى كان يشاكس كل سيناريو يُؤخذ عن قصة أو رواية له، ويذهب أحياناً إلى أماكن التصوير ليُبدى اعتراضه ورفضه، ساعياً إلى أن يكون كل شىء يأتيه الممثلون مطابقاً لما ورد فى النص الأصلى، من دون زيادة ولا نقصان.
فى حياتنا الفنية هناك أعمال درامية أو مسرحية انتقصت من الأصول القصصية أو الروائية التى أخذت عنها، فظلمت أصحابها، وعلى رأسهم «محفوظ»، الذى لا يزال فريق ممن لم يقرأوه إنما شاهدوا الأفلام المستمدة من سردياته العذبة العميقة، يتوهمون أنه الكاتب الذى احتفى بعالم الراقصات والغانيات والصراعات المتوحشة فى الحارات الخلفية بين الفتوات المتجبرين، جاهلين بالجمال الفنى والقيم الإنسانية العميقة التى تنطوى عليها أعماله الخالدة.
قد يكون إبراهيم عيسى فى حماية من هذا، لأن روايته ذاع صيتها، فوصلت إلى القائمة القصيرة فى الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» بدورتها الأخيرة، وصدرت منها، حتى الآن، سبع طبعات، وتوالت الأخبار عنها غزيرة، وإن لم يكن النقاد قد التفتوا إليها، حتى وقتنا هذا، بالقدر الذى يُرضى كاتباً متدفقاً دؤوباً، تطغى، فى نظر جمهوره العريض، كتاباته السياسية الملتهبة على ما تجود به قريحته الأدبية، التى أهدتنا عدداً من الروايات بدأت بـ«مريم التجلى الأخير» ووصلت إلى «مولانا»، مروراً بـ«مقتل الرجل الكبير» و«العراة» و«دم على نهد» و«أشباح وطنية» و«صار بعيداً» و«فى وصف من يمكن تسميتها الحبيبة»، ومجموعة قصصية هى «عندما كنا نحب»، إلى جانب سيناريو عنوانه: «قصة حبهم»، ومع كل هذا ما يربو على عشرة كتب فى السياسة والفكر الدينى.
تبقى «مولانا» هى أهم وأنضج وأوسع الأعمال الأدبية لإبراهيم عيسى، وهذا ليس رأى النقاد أو اللجنة التى أوصلتها إلى القائمة القصيرة من «البوكر»، بل هو رأى «عيسى» أيضاً الذى يصفها بأنها «أعز الروايات إلى نفسه»، ربما لأنها حقّقت له أكثر من سابقاتها تقدماً لافتاً فى عالم الأدب، أو لأنه عاش معها زمن كتابة أكثر من غيرها، حيث بدأ أول سطر فيها مطلع عام 2009، وظل يعايشها حتى فرغ منها فى سبتمبر من العام الماضى. فقد كان يهجرها إلى غيرها من كتابة صحفية يومية لاهثة، وتجارب جديدة فى بلاط صاحبة الجلالة ومعاناة سياسية أوقعه فيها قلمه الجرىء، ثم يعود إليها ولعاً بها، وحدباً عليها، يضيف إليها مما جادت به ذائقته من صور، وما أهداه إليه عقله من أفكار، وما منحته إياه الحياة من تجارب، حتى استوت على سوقها، وصارت على الهيئة التى يرضاها.
وتتسم «مولانا» بتنوع لغة السرد، ما بين تلك الدارجة فى الواقع المعيش، وهذه الآتية من متن الكتب القديمة وحواشيها، وبين تلك التقريرية التى يغلب عليها الإبلاغ، وهذه الجمالية التى يسيطر عليها الإدهاش. وكعادة إبراهيم عيسى المولع بمشاكسة الأفكار والمواقف من دون تهيُّب ولا تحسُّب، تتصدى روايته تلك لقضايا مطروحة فى سوق الدعوة الدينية، وتوظيف الإسلام كأيديولوجيا بحتة أو دعاية سياسية فى الصراع على السلطة، حيث سنرى جدلاً حول مسائل مثل الإرهاب وتداعياته، والخلافات المذهبية وآثارها، ومدارس الفكر الإسلامى ورواسبها، وروافد أصول الفقه وجدلياتها، وسنعيش مع الداعية «حاتم الشناوى»، بطل الرواية، حكايات ومواقف كثيرة، تشبه تلك التى يحياها من هم على شاكلته فى واقعنا. وكل هذا مغلّف بواقع اجتماعى وسياسى يضربنا كل يوم ذات اليمين وذات اليسار، من قبيل توظيف الدين فى جنى الثروة والجاه، وتعاون بعض شيوخ الدعوة مع أجهزة الأمن وأنظمة الحكم المتعاقبة، والخيط المتين الذى يصلهم بعالم المال والأعمال.
إن «مولانا» شهادة جارحة على جانب من حياتنا المترعة بالشقاء، إذ تفضح ممارسات طالما تسربل سوادها برداء أبيض نُسج من جلال الدين وهيبته فى النفوس، وهى تهتك أسراراً لا يعرفها عوام الناس عن وعاظ يقولون ما لا يفعلون، وتدين كل أولئك الذين يسيرون فى ركبهم كالعميان بحثاً عن سعادة عابرة، يتوهّمون أنها واقفة على شفاه تجار الكلام الآتى من بطون الكتب الصفراء، وليست فى أعماق أنفسهم لو كانوا يبصرون.
"الوطن"