عمار علي حسن
خاض الروائى المصرى مكاوى سعيد، تجربة مختلفة عن حكايات الأطفال والقصص والروايات التى أبدعها على مدار ربع قرن، ليكتب مقالات وتأملات وصورا قلمية ولمحات مكثفة يصفها هو بأنها «كتابة خارج التصنيف» ضمنها كتابه الأخير «أحوال العباد» لكنه لم يغادر كلية ولعه بالسرد طريقا إلى طرح الفكرة وتحديد مسار البرهنة، ليجهض فى طريقه حكايات عدة كان من الممكن أن يعيد إنتاجها لتصير «قصصا قصيرة» وبعضها كان من الممكن أن يمتد ليصير رواية كاملة الملامح، أو على الأقل جزءا مهما منها.
هذا اللون من الكتابة لم يأت عفو الخاطر، ولا مصادفة، إنما بتدبير من الكاتب الذى أراد أن يطل على الناس عبر صحيفة «الأهرام»، للمرة الأولى وربما الأخيرة، بشكل مغاير عما اعتاده عنه القراء، محاولا أن يستعيد المساحة التى فرغت برحيل الأديب الكبير إبراهيم أصلان، ويضاهى الطريقة التى يكتب بها فى مصر كل من محمد المخزنجى وأهداف سويف وعلاء الأسوانى وجمال فهمى وغيرهم مقالاتهم الصحفية، بل يزيد على هذا من خلال تلخيص فلسفات وقصص طويلة وروايات لكتاب عالميين، بدءا من أجاثا كريستى حتى فريدريك نيتشه، كى يستخلص العبرة منها ويوظفها بعناية فى التفاعل الخلاق مع ما يجرى فى واقعنا المعيش.
وينبئنا الكاتب عن هذا التدبير قائلا: «أغلب القصص والحكايات والمقالات الموجودة فى هذا الكتاب كتبت بعد ثورة يناير ونشرت بجريدة الأهرام، بطلب من الجريدة حينما رغبت فى الظهور بوجه ثورى، حتى ينسى الناس انحيازها السافر للرئيس المخلوع ورجال نظامه وبطانته، ومن هنا فقد استكتبت الجريدة عددا من الكتاب والمفكرين الذين رأت أنهم قادرون على القيام بهذا الدور بحكم طهارتهم الثورية، أو لو صح التعبير سذاجتهم الثورية التى كانت دافعا قويا فى قبولهم فكرة الكتابة فى تلك الجريدة دون أن يأخذوا حذرهم من تغير ميولها المتعددة». وعلاوة على «الأهرام» فقد توزعت بعض مادة هذا الكتاب على صحف أخرى مثل «الحياة» و«الصباح» ومجلات مثل «الدوحة» و«السياسى» التى كانت تصدر عن المصرى اليوم وتوقفت بفعل ضائقة مالية.
لكن «مكاوى» لم يشأ أن يغادر ما اعتاد عليه، أو يستسلم لأسلوب وطريقة فى الكتابة كانت تصيبه بالملل، وظل طيلة حياته يعيب عليها ويهجوها، ويراها منفرة للقراء لجفافها وتقريريتها وتكلسها، ولذا يقول فى مقدمة كتابه: «كنت قد ابتعدت عن القالب الصحفى فيما أكتبه، واخترت قالبا أقرب إلى نفسى ووجدانى، وهو قالب يقترب كثيرا من روح القص والحكى، بقدر ابتعاده عن الجمود، ونضوب الخيال، الذى كان يصرفنى كثيرا عن إتمام قراءة بعض المقالات والأعمدة الصحفية، فقدمت من خلال هذا القالب صورا من مشاهداتى ورؤايا، وبعضا من تجاربى وخبراتى وشذرات من سيرتى وقراءاتى».
وهذه المشاهدات والمشاهد المتتالية صنعت كل عمر الكاتب، المعروف عنه أنه يجلس كثيرا على المقاهى صامتا يراقب الناس أو يتلصص عليهم ويصطادهم حكايات مثل تلك التى حواها كتابه «مقتنيات وسط البلد» أو كثيرا مما جاء فى روايته الشهيرة «تغريدة البجعة» التى وصلت إلى القائمة القصيرة فى الدورة الأولى لــ«البوكر». ولهذا لم يكن غريبا أن يهدى «مكاوى» كتابه إلى ما منحته إياه الأيام التى قضاها متأملا من حوله أو جاعلا من نفسه موضع تأمل، حيث يقول: «أهدى هذا الكتاب إلى الزمن الذى يتسرب من بين أصابع الكف، والذى كنت شاهدا عليه أحيانا، وفى بعض الأحيان كنت فى موضع مشاهدة، غير أنى لا أخفيكم الحقيقة، كنت مستمتعا فى كلتا المرتين».
(ونكمل غدا إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن "الوطن"