توقيت القاهرة المحلي 18:28:55 آخر تحديث
  مصر اليوم -

غرفة أبى (1-2)

  مصر اليوم -

غرفة أبى 12

عمار علي حسن

من ضلع أبيه، وفى غرفته، جلس الكاتب والأديب اللبنانى الأستاذ «عبده وازن» ملفوفاً فى العتمة الرائقة يفتش فى ذكريات غاربة، ويستدعى كل ما يضنيه على مهل، كى ينسج منه عملاً أدبياً لافتاً، ينعته هو بأنه «رواية سيرة ذاتية»، يرسم فيه ملامح تجربة عميقة، جديرة بالتأمل، مُشبعة فى جمالها، ومُدهشة فى تكوينها، ومُختلفة فى سمتها، ومُثمرة فى مضمونها العامر بالمعارف والأحوال والأماكن والأشخاص والصور والمواقف النفسية المتأرجحة بين هدوء ناعم وصخب جارح، وتساؤلات لا تشفى إجاباتها الغليل، ولا تقيل العثرة، ولا تبدد الحيرة المقيمة كالقدر. ومنذ قراءتى لكتابَى «ذاكرة للنسيان» لمحمود درويش و«رأيت رام الله» لمريد البرغوثى لم أستمتع بنص سردى خارج التصنيف بمستوى كتاب «غرفة أبى» الذى يختلط فيه السرد بالأفكار، ليتماهى كاتبه أو يتوحد مع أشباهه، أو من ظنهم كذلك، من أدباء وعلماء وفلاسفة كثر، فى الشرق والغرب، يفتش فى ثنايا سطورهم عن كل الحبال السُرية القديمة المتجددة التى تربطهم بآبائهم، قساة غلاظ القلب كانوا، أو رحماء يتقاطر الامتنان والعطف من عيونهم التى تذبل بمرور السنين. ويعبّر وازن بشكل صريح عن هذا فى ثنايا نصه إذ يقول: «لطالما أحببت التلصص إن أمكننى القول، على صور الآباء، فى الروايات والأفلام والمذكرات والسير الذاتية، السير هذه بخاصة. هل كان هذا ناجماً عن نقص فى شخصى؟ أم عن قلق يفتك بى سراً؟». وفى ثقافتنا العربية أخذت كتابة السير الذاتية أشكالاً عدة، فهناك اليوميات المسجلة تباعاً، فى محاكاة لما كان يكتبه المؤرخون القدامى عن السلاطين وعلية القوم، وهناك السير المكتوبة سرداً وهى الأغزر إنتاجاً، لكنها ليست رواية لأن مساحة المتخيل فيها منعدمة، ومنها الذى يخفى كاتبها الكثير من أسراره الخاصة مثل «الأيام» لطه حسين، و«أوراق العمر» للويس عوض، أو يعرى كل شىء مثلما فعل سهيل إدريس فى سيرته. وهناك صيغة ابتكرها نجيب محفوظ فى «أصداء السيرة الذاتية» حيت الأقاصيص المتوالية التى تغطى مشوار العمر كله. وهناك من فضّل أن يكتب سيرتين متوازيتين مثل زكى نجيب محمود فى «قصة نفس» و«قصة عقل». أما عبده وازن فقد اختار شكلاً مغايراً، ألا وهو كتابة السيرة الذاتية فى ثوب رواية، بحيث يفتح باباً للمتخيل، الذى يردم به ما لا يعرفه، ويفتح نوافذ عدة لـ«التوالد الحكائى» الذى يتناسل من صلب العمل أو يشع من «بؤرته المركزية» وينثال فى ثنايا ما أبدعه، مضيفاً إليه، أو موسعاً إياه فى فجاج ودروب مختلفة، وفى الوقت ذاته يتبع «هندسة الكتابة» التى تمنحها إيانا الرواية ويعجز غيرها عن الإتيان بها. فى هذه «السيرة الروائية» ربما أراد وازن أن يبحث فى غرفة أبيه عن الأمان الذى افتقده فى رحلة الغربة سعياً وراء الرزق، وتداعيات الحرب الأهلية التى لطمت وجه لبنان الجميل، وتصاريف الحياة الصعبة وأوجاع الزمن الذى يتسرب من بين أصابعه، ولهذا اختار مفتتحاً لروايته تلك من أقوال الفيلسوف والشاعر الألمانى نوفاليس: «لا يشعر الفتى بالأمان إلا فى غرفة أبيه». وربما كان يبحث، فى نفسه وحياته، أو المسارب المتعرجة التى سلكها فى رحلة حياته بعد أن وصل إلى الثانية والخمسين من عمره، عن أبيه، الذى مات فى الثامنة والأربعين، بعد أن صار الابن أكبر من الأب، وحامل جيناته وبعض طباعه، مستلهماً فى هذا ما قاله الفيلسوف الألمانى فردريك نيتشه: «الصامت فى الأب، ناطق فى الابن، ولطالما فى الابن سر للأب، مكشوف النقاب». ويضعنا وازن فى لحظة البداية، حين قرر أن يكتب هذا العمل، وهو أيضاً استهلاله، إذ يقول: «كنت أتصفح دفاترى القديمة التى اعتدت العودة إليها مرات فى العام، مسترجعاً ذكريات لعلها الأحب إلىّ». ورغم أنه لا يتذكر تاريخ وفاة أبيه، ولا يستقر فى رأسه منه سوى أنه «لفظ أنفاسه عند الغروب» إلا أنه يستعيد كل شىء يخصه، غير مكتفٍ بطرحه كما جرى فى الواقع، إنما يسائله طيلة الوقت، ويحاول أن يصل إلى أعماقه النفسية البعيدة، ويتخيل الجوانب التى غابت عنه، أو ضاعت من الذاكرة، وهو فى الحقيقة يتخذ من الأب طريقاً لمعرفه ذاته، وهو ما يدل عليه قوله فى المقطع قبل الأخير: «لا أعلم ماذا علىّ أن أكتب إليك أيها الأب، ماذا علىّ أن أكتب عنك. إننى أكتب لنفسى، أستعيد ماضىّ الذى كان جزءاً من حاضرك لأتذكرك». ويعيد الموقف ذاته فى موضع آخر: «إننى أخاطبك وكأننى أخاطب نفسى». وهذا إن كان كاشفاً لجانب مما كتبه وازن فى عمله هذا، فإنه يبين أن سرده، الذى خضع فى أغلبه لقانون «تداعى المعانى» أو البوح الحر الذى يتحرك بلا قيود فى الزمان والمكان، لم يقطع بشىء، ولا يريد أن يصدر أحكاماً نهائية حول «صورة الأب» أو بالأحرى «صورة الابن» المضمرة المتوارية بين السطور، أو تلك الظاهرة عياناً بياناً فى مجمل الكتاب. (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى). نقلاً عن "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غرفة أبى 12 غرفة أبى 12



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:34 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد أمين يعود بالكوميديا في رمضان 2025
  مصر اليوم - أحمد أمين يعود بالكوميديا في رمضان 2025

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon