عمار على حسن
من نافلة القول: إن فكرة «الخصوصية» التى تُطرح الآن فى وجه «العولمة» ليست أمرا جديدا، وليست حيلة دفاعية من أجل الذود عن «الهوية» أو «الذات الحضارية» بقدر ما هى حاجة أصيلة إلى التميز، ورفض قاطع لتماهى الذات فى الآخر، أو مسخ النفس لحساب الغير، أو الاكتفاء بالتقليد، والرضا بالعيش فى الهامش البارد، دون أى طموح للتفاعل الخلاق مع العالم، من أدناه إلى أقصاه.
لكن الخصوصية ليست فكرة متفقا عليها؛ فرغم أصالتها وحيويتها، فإن مساحة الحركة داخلها شاسعة إلى حد التناقض التام بين معتنقيها، أو المنافحين عنها، المتحمسين لها، وبين رافضيها جملة وتفصيلا، ممن يؤمنون بأن العالم صار «قرية عالمية» من الضرورى أن يذوب الجميع فيها، ليس فى مجال التقنيات فحسب، بل أيضا فى فضاء القيم والمعانى الإنسانية.
والأكثر إثارة للجدل أن المؤمنين بالخصوصية ليسوا على عقل وقلب رجل واحد فى التعامل معها، بل إن بينهم أيضا اختلافات تصل إلى حافة التناقض فى بعض الأحيان. فهناك من يتعامل مع المسألة بصرامة وحدة؛ إذ لا يريد أن يتفاعل أو يستفيد مما لدى الآخر، وإن وجد نفسه منساقا بحكم الواقع إلى الاستعانة أو الاسترشاد بما لدى «الغرب» مثلا، فلا يعدو هذا بالنسبة له أن يكون «بضاعتنا ورُدَّت إلينا»، فى إحالة إلى العطاء الغزير الذى منحته الحضارة الإسلامية فى أيامها الزاهرة إلى الغرب.
وعلى الطرف الآخر، هناك من يؤمن بتلاقح الحضارات، ويعتقد اعتقادا راسخا أن المسلمين بحاجة ماسة إلى الاستفادة مما لدى الآخرين من عطاء، فى مختلف المجالات، التقنية والإنسانية، باعتبار «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها».
على هذين الطريقين، يقف الخطاب الإسلامى بشتى أطيافه من فكرة الخصوصية، موزعا بين اتجاهين، الأول يتمثل فى نظرة رحبة للخصوصية، لا ترى أى غضاضة فى المزاوجة بين ما لدينا وما يأتينا من الخارج، بشرط أن تكون النسبة الغالبة مما هو عندنا، وأن يشكل هذا القاعدة التى نبنى فوقها، والجدار الذى نستند عليه. أما الثانى فينظر إليها باعتبارها نهجا مكتفيا بذاته، لديه اكتمال نظرى وقدرة على تلبية كل ما يتطلبه الواقع من حلول للمشكلات التى تفرض نفسها، آنيا ومستقبليا.ومن ثم يسعى أصحاب هذا الاتجاه إلى بناء أطر نظرية وعملية تلبى احتياجات الواقع، ويأملون بها أن يرمموا الشروخ الواسعة التى حدثت نتيجة ما يسمونه التغريب، أو الابتعاد عن الإسلام. وأنتجت عملية البناء والترميم هذه رؤى عريضة لأسلمة شتى دروب الحياة. فهناك «الاقتصاد الإسلامى» و«القانون الإسلامى»، وهناك «إسلامية المعرفة» ومحاولة لبناء «علم اجتماع إسلامى» و«علم سياسة شرعى» فى جوانبه النظرية والإجرائية، و«علاقات دولية إسلامية»، و«فن إسلامى»، ونزولا من هذه التصورات الكلية والأساسية، هناك محاولة لأسلمة تفاصيل صغيرة جدا فى الحياة اليومية للفرد، مثل المأكل والمشرب والملبس وطرق الترفيه ونبرة الكلام والضحك، وما يجرى فى المناسبات الاجتماعية كافة، وفى مقدمتها حفلات الزفاف والمآتم... إلخ.
وفى هذا السياق، يُضيِّق البعض من «الخصوصية» إلى درجة تجعل منها قفصا حديديا يحيط بالفرد من كل جانب، ويكاد يخنقه، أو نوعا من «الوسواس القهرى» الذى يطارد الإنسان فى صحوه ومنامه، ويجعله يشعر بالذنب الدائم، والتقصير المستمر. ومثل هؤلاء يختلط لديهم العقدى الثابت بالاجتماعى المتغير، ويحمّلون الدين أحيانا فوق طاقته، أو أكثر مما يطلبه الدين نفسه، فى حضه على الفضيلة، ومقاومته للرذيلة.
إن المطلوب هو أن تكون الخصوصية سلاحا حقيقيا فى وجه تجبر العولمة، وشعورها الزائف بالقدرة على صهر البشرية جمعاء فى بوتقة واحدة، أو تحويل الناس إلى أنماط متشابهة، بل متماثلة، تفكر بطريقة واحدة، وتعتنق ثقافة واحدة، وتعيش بأسلوب واحد. وهذا السلاح لا يقوم بجلد الذات، وإغلاق الباب أمام كل ما يرد من «الآخر»، بل يقوم على هضم كل ما لدى الآخرين من إمكانات، وتطويعها لخدمة المصلحة العامة للمسلمين، وهذا ما كان يجرى فى الأيام الزاهرة للحضارة الإسلامية؛ حيث نشطت حركة الترجمة، واستفاد فلاسفة المسلمين مما تركته القريحة اليونانية، واستفاد العرب من طريقة بناء الفرس والروم للهياكل والمؤسسات السياسية، ونهل المسلمون جميعا مما كان لدى البشر وقتها من تقدم فى الطب والهندسة، فحازوا بذلك مقدرة على قيادة من على الأرض جميعا، قرونا طويلة.